كرة النار تكبر بسرعة وتؤذن بهزيمة الاحتلال في لبنان
رأي
كرة النار تكبر بسرعة وتؤذن بهزيمة الاحتلال في لبنان
سري سمّور
تجمعت بعد عملية (عناقيد الغضب) -التي تحدثت عنها في المقال السابق- عدة عوامل وتكتلت مجموعة من الأحداث المفصلية كانت بمثابة كتلة نار كبرت بسرعة نسبيًّا قرعت جرس أوان زوال الاحتلال الصهيوني عن الشريط المحتل جنوبي لبنان.
وفي هذه المقالة سأستعرض أبرز وأهم تلك الأحداث لأهميتها وللدروس والعبر المستفادة منها.
كارثة المروحيات
في 4 شباط/ فبراير1997، وبينما كان المسلمون في العالم يحيون ليلة القدر أواخر شهر رمضان المبارك، اصطدمت مروحيتان عسكريتان من سلاح الجو الصهيوني وسقطتا في الجليل، وكانت المروحيات (من طراز يصعور) تستعد لشن عمليات قتالية عدوانية ضد مواقع حزب الله؛ وقد خلصت لجنة التحقيق التي شكلها جيش العدو، إلى أن التصادم سببه (خطأ بشري) وقد أسفر التصادم عن مقتل 73 ضابطًا وجندياًّ صهيونيًّا مقاتلاً، و"إسرائيل" اعتبرت ما جرى (كارثة وطنية)، وقد عمّ الفرح في فلسطين وربط الناس بين الحادث وإحياء ليلة القدر، وفي داخل الكيان عاد الملف اللبناني بقوة إلى النقاش والجدل، حول جدوى الوجود الإسرائيلي هناك، وما ينجم عنه من كوارث؛ فعدد القتلى في الحادث خلال لحظات لم تكن "إسرائيل" تخسره في لبنان في بضع سنين!
على إثر ذلك تشكلت في الكيان حركة (الأمهات الأربع) وكانت نواتها نسوة شارك أبناؤهن في القتال في لبنان وقتلوا هناك، إضافة لمن يخدم أبناؤهن في الجيش ويفرزون للقتال هناك، وستكبر هذه الحركة مكونة مجموعة ضغط على القيادة السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني بهدف الانسحاب بسرعة من لبنان قبل وقوع خسائر أخرى.
كمين أنصارية
ليلة 4-5 أيلول/ سبتمبر 1997تسللت وحدة كوماندوس بحري تابعة لجيش العدو لتنفيذ مهمة-لم يكشف عنها حتى الآن-ضد أهداف تابعة لحزب الله، فوقعت في كمين محكم أسفر عن مقتل 12 عنصرًا من الوحدة، وعمت الفوضى صفوف الجيش الصهيوني والارتباك لدرجة ترك جثة أحد العناصر وراءهم، سيتم استبدالها لاحقًا؛ ومع أن حزب الله أكد أن ما جرى كمين تم الإعداد له مسبقًا، فإن الاحتلال وصف ما جرى بأنه (محض صدفة)، وغالبًا رواية الحزب هنا هي الصادقة، واعتاد الاحتلال تأخير الإفصاح والاعتراف عن مثل هذه الكمائن والعمليات، وبغض النظر عن ذلك، فإن هذه الضربة والخسائر رفعت أسهم المقاومة في صفوف اللبنانيين والفلسطينيين، وازداد الضغط على قيادات العدو من جمهور المستوطنين لوقف النزف الذي يسببه احتلال الشريط الحدودي في جنوب لبنان.
هادي حسن نصر الله
في 12 أيلول/ سبتمبر1997، وأثناء اشتباك مع قوة من الجيش الصهيوني في منطقة جبل الرفيع في إقليم التفاح، أصيب عدد من أفراد مقاتلي حزب الله بين شهيد وجريح، ومن بينهم (محمد هادي) الولد البكر لأمين عام حزب الله حسن نصر الله، واختطف جيش الاحتلال جثمانه.
هنا ظهر زعيم حزب الله بمظهر الصدق وأنه لا يدفع أبناء الناس الفقراء للموت بينما يسرح أولاده وأولاد بقية زملائه ويمرحون في أوروبا أو في أماكن آمنة في لبنان أو بعض الدول العربية (الماكنة الإعلامية الإسرائيلية كانت تروّج وما زالت لمثل هذه المقولات وتبعها بعض العرب) مما جعل صحافيًّا لبنانيًّا كان يكثر من انتقاده للحزب وزعيمه أن يكتب مقالاً يحمل لهجة تودد وتعاطف وتأييد لنصر الله مضيفًا أنه لم يسبق لقائد أي حزب لبناني أن يدفع ابنه لموضع المخاطرة والموت.
وأيضًا في فلسطين زادت شعبية نصر الله ومصداقيته، سيّما وأن نصر الله واجه فقدان نجله برباطة جأش وحمد الله وشكره، وأعلن استمراره وبقية أولاده على ذات النهج.
وبعد بضعة أشهر في 26 حزيان/ يونيو 1998، سيعود جثمان (هادي) مع جثامين أخرى ومعتقلين محتجزين في (سجن الخيام) سيء الصيت الذي كان يشرف عليه جيش العميل أنطوان لحد، مقابل جثة رقيب الكوماندوس القتيل في كمين أنصارية إلى لبنان في أجواء احتفالية مهيبة رفعت من معنويات رجال المقاومة وجمهورها وأنصارها في لبنان وفلسطين وسائر أرجاء العالمين العربي والإسلامي.
وما دمنا نتحدث عن هادي فلا بد من التطرق إلى ما يقال أنها (تسريبات) من الاستخبارات السورية، بأن الشاب قتل في شجار في ملهى ليلي في دمشق، وتمت (لملمة) الموضوع وإخراجه بهذه الطريقة.
فمنذ متى كانت استخبارات النظام السوري مصدرًا موثوقًا -على اعتبار وجود تقرير كهذا صادر عنها أصلاً- يجري اعتماده والتعاطي معه حقيقة مسلمًا بها؟ وإلا علينا تصديق كل تقارير أجهزة استخبارات النظام التي تشوّه وتشنّع بأضعاف أضعاف هذا التسريب المزعوم على خصومها بل على من يقفون على الحياد، أليس كذلك؟
ولو صحت هذه التسريبات المزعومة، فإن أعداء حزب الله وزعيمه يملكون من القدرات الدعائية ما يمكنهم من إحراج الرجل وحزبه والتشهير به، لا الاكتفاء بمنشورات على الإنترنت.
كما أن الاحتلال ليس معنيًّا بتبييض صفحة نصر الله، وسيعتبر هذا التسريب المزعوم فرصة ويستغلها كعادته، ولكنه لم يفعل لأنه يدرك أن هذه مناكفات مردها الأزمة السورية، وهو الذي عرض صورًا لجثته المصابة في الخاصرة والعنق، ويبعد استلام جثمان من الاحتلال ويتم التمويه بأنه لهادي وهو لشاب آخر، مهما كانت التدابير مشددة.
ودومًا أقول يجب التفرقة بين رفض سياسة إيران وحزب الله وموقفهما من ملف معي ن(السوري هنا لأن الترويج للقصة جاء بعد أزمة سورية) وبين العداوة المؤكدة بين إيران وأتباعها والكيان الصهيوني. وأعلم أن هناك من لن يصدق أو يصعب عليه فصل الملفين في تلافيف دماغه!
مقتل إيريز غرشتاين
الجنرال (إيريز غرشتاين) كان قائدا عسكريًّا صهيونيًّا هو بمثابة الحاكم الفعلي للمنطقة الأمنية المحتلة في جنوب لبنان، وأظهر شراسة وتصميمًا في مواجهة حزب الله، لدرجة تبنيه خيار (نحاربهم بنفس أسلوبهم) بزرع عبوات في قرى وبلدات لبنانية وتفجيرها، واعتماد أسلوب حرب العصابات التي يعمل بها مقاتلو الحزب.
ولكن عربدته لم تدم طويلاً فقد تمكن حزب الله منه بعد عملية رصد ومتابعة معقدة، فقام بتصفيته بتفجير عبوة ناسفة في منطقة مرجعيون في 28 شباط/ فبريار 1999، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يصف قادة العدو ومنهم وزير الحرب الحالي (غانتس) الحدث بالقاسي وأن ذلك اليوم كان يومًا (ملعونًا) بالنسبة لهم.
الانسحاب من جزّين
تصاعد عمليات المقاومة الشرسة وتمكنها من تنفيذ عمليات نوعية كالتي ذكرتها أعلاه، جعل "إسرائيل" تفكر بطريقة أخرى، في محاولة يائسة لبث بذور الفتنة في الساحة اللبنانية من جديد؛ فأوعزت إلى جيش عملائها الذي كان يتلقى ضربات موجعة قاتلة، بانسحاب مفاجئ من منطقة (جزّين) في 3 حزيران/ يونيو1999زعمًا منها أن هذه (بروفة) واختبار لقدرة الجيش اللبناني وأجهزة الدولة في لبنان على إحكام سيطرته عندما تنسحب.
تعامل حزب الله بحكمة مع الانسحاب، ومدعوما بحكومة لبنانية خاضعة للقرار السوري المتحالف مع إيران، أوضح أنه لن يعيق عمل قوات الجيش والأمن التابعة للجمهورية اللبنانية بل سيكون عونًا لها، ومن جهتها قالت الحكومة اللبنانية أن على الاحتلال أن ينسحب تمامًا دون قيد أو شرط من الأراضي اللبنانية المحتلة وليس من جزّين فقط، وأوصلت رسالة أنها لن تلعب الدور الذي كانت تلعبه قوات لحد في جزّين وغيرها.
الانسحاب من جزّين التي وفد إليها مواطنون مهجرون وساسة وطواقم صحفية وممثلون عن الأحزاب والقوى اللبنانية الرسمية والشعبية كشف حجم بشاعة وفظاعة الاحتلال وإدارة عملائه؛ فالمنطقة لم يكن فيها سوى بضعة آلاف من المواطنين صبروا وصمدوا، أو لم يكن لهم سوى خيار البقاء، في حين أنه قبل احتلالها (14 سنة من الاحتلال) كان فيها 40 ألفًا، وكشف عن جرائم قوات لحد وهتكها لأعراض النساء، ونهب الأموال والممتلكات وترويع الناس وإرهابهم بأخس الوسائل!
عقل هاشم قتيلا!
استمرت كرة النار في التضخم والتدحرج باتجاه جيش العدو وعملائه ولم تترك لهم إلا واحدًا من أمرين: الانسحاب فورًا دون شروط، أو مواجهة الموت الذي صار يتربص بهم في كل مركبة أو منزل أو شارع، ووقع حدث بارز هزّ الكيان وعملاءه وسارع في تغيّر سياساتهم.
فقد تمكن حزب الله بعد تخطيط استمر شهورًا وعملية مراقبة مكثفة من قتل العقيد (عقل هاشم) الذي كان أبرز المرشحين لخلافة أنطوان لحد، ومسؤولاً أمنيًّا بارزًا في جيش العملاء ويتقن اللغة العبرية، وعرف عنه تعذيب الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين بوسائل بشعة كالحرق والصعق الكهربائي، بينما كان يعد حفلة شواء في حديقة منزل سرّي له لقادة العملاء وضباط إسرائيليين، أيضًا باستخدام عبوة ناسفة، في اختراق لكل التدابير الأمنية والحراسة المشددة التي كان العميل الكبير يحيط نفسه بها، نهار يوم 30 كانون الثاني/ يناير 2000.
عمّ الفرح والابتهاج بعد هذه العملية النوعية، وساد الارتباك والقلق صفوف العدو والعملاء، فالرسالة أنكم لستم بمأمن وأن عليكم الرحيل، وأن المقاومة تطورت تكتيكاتها عمّا عرفتم خلال 24 سنة من احتلالكم.
ولأن حزب الله كما قلنا حرص على فرملة الدعاية التي يعتاش عليها الاحتلال بأنه يستهدف طائفة أو شريحة لبنانية، اكتفى الحزب بنقد عابر خافت لقيام ممثل عن البطريريك (نصر الله صفير) بالصلاة على جثمان القتيل عقل هاشم، وهو بالمناسبة من الطائفة المارونية وليس شيعيًّا كما يشاع.
هذه الأحداث البارزة والتطورات الدراماتيكية في لبنان، سيكون لها تداعياتها الكبيرة وستسرع في اندحار العدو من جنوب لبنان، وسيكون لذلك انعكاساته على القضية والمقاومة الفلسطينية، ذلك أن حديثي أساسًا عن المقاومة الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية، والمقالات عن حزب الله سابقًا أو لاحقًا لتوضيح الصورة (بانوراميا) لا خروجًا عن النص.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
- المقالات المنشورة في موقع مركز القدس تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.