"كورونا" كاشف العورات!!
فتحي الورفلي
22-03-2020
كتب: فتحي الورفيلي
في هذا المقال سنحاول الإجابة على السؤال التالي:
هل يعتبر "كورونا" مجرَّد حالة وبائية يقتصرُ التعاطي معها من منطلق الحدِّ من وبائيتها بالمفهوم الطبي والصحي للوبائية، دون أيِّ تداعيات من نوع آخر؟! أم أنه – أي "كورونا" – ظاهرة فَرَضَت نفسَها على العالم إلى الحدِّ الذي لم يعد يقدر معه على الاكتفاء بالنظر إليها بوصفها ظاهرة وبائية يجب البحث عن علاج لها وفقط، وإنما وجد نفسَه – أي العالم – غارقا في أتون تداعيات غير صحية وغير طبية لها، حتى وهو يتعاطى معها باعتبارها وباءً، ما يفرضُ عليه من ثمَّ التكيُّف مع هذه التداعيات غير الصحية، وغير الطبية؟!
إن هذا السؤال إذ يفرض نفسَه علينا بإلحاح، فلسببين هما:
الأول: إن "كورونا" – ولأسباب تحتاج إلى دراسة معَمَّقة وشفافة – فَرَضَ على العالم أن يَعْتَبِرَه البعض أكبر تحدٍّ له منذ الحرب العالمية الثانية، كما صرَّحت بذلك المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، وأن يعتبره البعض الآخر أكثر خطورة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما صرَّح بذلك الرئيس الأميركي "دونالد ترامب".. إلخ. وهو الأمر الذي – وبصرف النظر عن الأسباب التي دعت أولئك وهؤلاء إلى اعتباره كذلك – يضعنا أمام تحدٍّ كبير تفرضه هذه الحالة غير المسبوقة من الخطر، والهلع، والتهديد، والتهويل، المشتركة، والتي يعيشها العالم بأكمله منذ بروز هذه الظاهرة قبل أكثر من شهرين.
الثاني: إن "كورونا" وإن كان أقل في تأثيراته لجهة أعداد الإصابات، وأعداد الوفيات، حتى الآن على الأقل، من أوبئة شبيهةٍ سابقةٍ له، مثل "أنفلوانزا الخنازير" التي أودت بحياة عشرات الآلاف من البشر في مدة أقصر بكثير مما يحدث حاليا، أو من "فايروس أبيولا" الذي ما يزال يصيب الكثيرين حتى الآن، فضلا عن أمراض خطيرة غدت من مُرافِقات الإنسان في المَدَنِيَّة الراهنة، مثل "الإيدز" الذي يودي سنويا بأرواح مئات الآلاف من البشر.. إن "كورونا" هذا، قال للعالَم بملء الفم وخلال شهرين فقط: أنا جئت لأكشف العورات جميعها، ولأُعَرِّيكم من أستاركم الهشَّة الكاذبة المخادعة، فاستعدوا للفضائح، لأنني لست مجرد مرض سيميت ويصيب منكم من استطاع، قبل أن تفرضوا عليه الرحيل، بل أنا أحمل من القوة الكاشفة والفاضحة ما سيجبركم على إعادة النظر في كل ثوابتكم، رغم أنني لن أفعل بكم صِحِّيا مثلما فعل بكم غيري.
ولقد أرسل "كورونا" الكاشف الفاضح هذا رسائلَه المشَفَّرة إلى كلِّ العالم عبر ردود أفعالهم "الصِّحِّيَّة" و"الطِّبِّيَّة" على اكتساحه لهم، من خلال "عناوين رئيسة" جسَّدتها وفاضت بها تصرفاتُهم الطبيعية، وهم يسعون بها لحماية أنفسِهم من الفناء والموت:
1 – "كورونا" أعاد تحديد مفهوم "العولمة"، ليقول: لا عولمة إلا "أنا"، وكل مظاهر عولمتكم باطلة، لأنني فرضت عليكم حذفها من قواميسكم بشريط الـ DNA الذي أرعبتكم وأنا أتجول به عاريا بلا حسيب ولا رقيب. فنحن الآن أقرب إلى عالم ما قبل الإنترنت والفضائيات والعولمة، فكل الدول عزلت نفسها، وانكمشت داخل قوقعاتها لحماية نفسها من الخطر.
2 – "كورونا" غيَّر "أولويات الحكومات"، ليقول: فلتسقط الخَصْخَصَة، ولتعد للدولة مهمتها الحمائية والرعائية للمواطنين رغم كلِّ المتجبرين والمتغطرسين الذين تاجروا حتى بالحد الأدنى من أقوات الفقراء. فلم يعد يعلو اليوم صوتٌ فوق صوت السلطة وإجراءاتها الحمائية في كل شيء.
3 – "كورونا" أعاد الاعتبار لـ "التضامن المجتمعي"، ليقول: كفاكم تباعدا داخليا حقيقيا، لحساب تقارب خارجي افتراضي بارد كالصقيع، وعودوا إلى حميميتكم الداخلية، ولا تتنازلوا عنها لحساب ذلك الصقيع. فالانفتاح على الخارج والاندماج فيه، بداخلٍ متباعدٍ وهشٍْ، لا يقيم مجتمعا إنسانيا عالميا متكافئا ومتوازنا. إن مثل هذا المجتمع العالمي لا يقوم إلا بتفاعل أقوياء متماسكين متوازنين نظراء. فلتخلقوا مجتمعكم الداخلي المتماسك القوي المترابط، ثم انفتحوا على العالم وأنتم كذلك، وإلا فإن الذوبان والفناء والاضمحلال هو مصير حضارتكم العالمية، التي لا يمكنها أن تقوم إلا على تفاعل الأنداد.
4 – "كورونا" أنقذ "الأسرة لَبِنَة المجتمع الأولى" من الضياع الذي كانت تنحدر نحوه، ليقول: الأسرة والبيت هما أساس الصحة والسلامة والبناء الراسخ، فلا مكان يحميكم من بطشكم وبؤسكم سوى فكرة الأسرة. ألم يغدو التزام البيوت والعيش في كنف جو الأسرة هو أقصى ضمانة يمكن تقديمها للبقاء والاستمرار؟!
5 – "كورونا" يعيد "رسم ملامح السياسة الدولية" ليجبِرَها على تعديل مسارات أولوياتها، من الصدام إلى التفاعل، ومن التنافس إلى التكافل، ليقول: أيتها الرأسمالية الجشعة، ما أسهل أن يُقضى عليك بجرة "فايروس" يُفْقدُك كلَّ مكتسباتِك، أنا الموتُ جمعتكم وذكَّرتكم بنهاياتكم المتشابهة، فتذكروا الحياة التي هي بداياتكم المتشابهة.
6 – "كورونا" يضع أبشع مظهر من مظاهر الشَّرِّ البشري على المحك ويحشره في الزاوية، ليقول: ليست سيادة العالم لمن يستطيع أن يقتل أكثر، فلا أحد يستطيع أن يقتل مثلما أستطيع أن أفعل "أنا"، ومع ذلك فأنا مجرد مخلوق تائه لا قيمة لي، إنما السيادة لمن يستطيع أن يُحيي أكثر، ويبني أكثر، ويخدم الإنسانية أكثر، لذلك فلا سيد فيكم حتى الآن، فأعيدوا ترميم إنسانيتكم المهشَّمة.
نعم، هذه هي رسائل جلالة "الإمبراطور كورونا المعظَّم"، ولكنها رسال تُقرأ في ردود الفعل العالمية، وليست تُقرأ في أي مكان آخر، إنها رسائل أراد "كورونا" أن يَطَّلِعَ عليها الناس في أفعالهم، وفي سلوكهم، وفي ردود فعلهم، على رؤية الموت وهو يزحف صوبَهم.
فإن كان "كورونا" إطلالة قَدَرٍ، فالرسالة هي للجميع، حكاما ومحكومين، قادة ومقودين، أشرارا وأخيارا.
أما إن كان لعبة أشرار، فهو رسالة إلى الشعوب والبسطاء والشرفاء، ليعرفوا كيف يجب أن تكون خرائط العالم القادمة.
قد ينتهي أمر "كورونا" إلى لا شيء من كل هذا، كما كان شأن سابقيه "أبيولا"، و"سارس"، و"الطيور"، و"الخنازير، ويخسر من يخسر، ويكسب من يكسب، وتعود الرأسمالية الدوائية والغذائية لتتربع على عرش غيلان الإمبريالية العالمية، ولكن هذا لا يمنع من أن "الظاهرة كورونا" فرضَت نفسها علينا على نحوٍ أتاح لنا قراءة تلك الرسائل المشَفَّرَة بالغة الأهمية، فإما أن نلتقطَها، وإما أن نكون نحن الخاسرين.
إن "كورونا" أيا كان مُسَبِّبُه "أميركا"، أو "الصين"، أو "فرنسا"، أو "الخفاش"، أو "القَدَر".. إلخ، هو فرصةٌ تاريخية يمنحها لنا الله لنقولَ للرأسمالية بأشكالها الأربعة: "النيوليبرالية" بقيادة الولايات المتحدة، و"المافياوية" بقيادة روسيا، و"المحافِظَة" بقيادة أوروبا، و"العمياء" بقيادة الصين، وهي – أي تلك الأشكال الأربعة – في أضعف حالاتها وأكثرها هشاشة.. نعم، إنها فرصة منحها لنا الله لنقول لأولئك جميعا: "آن أوان الشَّدِّ فاشتدي زِيَم"!!
سيسجِّل التاريخ أن "أزمة كورونا" هي أكبر أزمة شهدتها الرأسمالية العالمية، وهي أشد عليها من أزمتي "الكساد العظيم 1929"، و"الرهن العقاري 2008"، وهي تهزها من أعماقها إلى درجة جعلتها تنتفض.
ولكن في حال عدم وجود من يُحْسِنُ استثمار اللحظة لصالح شعوب العالم، كي يُخَلِّصَها من هذه الغيلان المتغطرسة، أو كي يُسَجِّلَ عليها النقاط المتقدمة في معركة الوجود هذه، فإن الرأسمالية ستجدِّد نفسَها وستعيد تأهيل بُناها لتواصلَ الحياة.
فإن لم تستفد الشعوب من هذه الأزمة في معركتها ضد الرأسمالية، فإن المستفيد الأكبر هو الرأسمالية نفسها، وإن عرفت الشعوب كيف تستفيد، فإن "كورونا" إن كان "لعبة أشرار"، فهو الخنجر الذي تكون قد طعنت به الرأسمالية نفسَها، وإن كان "إطلالة قدر"، فهو جندي من جنود الله الذين قال عنهم الله عز وجل: "وما يعلم جنود ربك إلا هو"، ليساعد به عباده، فهل يلتقطون الكرم الإلهي بعناية؟!