لماذا حافظت حركة حماس على رؤية واضحة التباين مع خصومها السياسيين؟
رأي
لماذا حافظت حركة حماس على رؤية واضحة التباين مع خصومها السياسيين؟
سري سمّور
اعترف مقال أو تقرير نشرته صحيفة (الرسالة) المقربة من حركة حماس، أو المعبرة عن رؤيتها ونهجها السياسي والاجتماعي والثقافي وغيره، بأن هناك حالة (من التراخي تسود أوساط شباب الحركة الإسلامية).
كان هذا الاعتراف عن واقع مشهود أواخر التسعينيات يصف بلطف ما هو أشد، أي (الإحباط) والشعور باللاجدوى؛ طبعًا نتكلم عن عموم القواعد الحركية وأنصار الحركة، مع العلم يقينًا أن هناك من حافظوا على عنفوانهم وتجدّد الطاقات لديهم، ولم يهتزوا أمام الواقع، وبالطبع هم قلة، تراجع تأثيرها.
حقيقة حركة حماس -ومعها الجهاد الإسلامي ضمنًا -بسبب الضغط الشديد والملاحقات والاستنزاف لم تعد قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية نوعية كتلك التي كانت في شباط وآذار 1996 وما قبلها، والجمهور الفلسطيني، وهو كأي جمهور لا يثبت على ذات الحالة زمنًا طويلاً، ليس ملتفًا حول خيار ونداء حماس له بالمقاومة كخيار وحيد لتحرير الأرض، أو درء المخطط الصهيوني، حتى وإن كان الجمهور قد أكثر من انتقاداته للسلطة وسلوكها، وصولاً إلى الغضب والتذمر الشديد.
ذلك أن الجمهور الفلسطيني ضمنًا قرر الانكفاء على الحياة الشخصية، والتنافس في تحصيل إنجازات اقتصادية أو تعليمية بين الأفراد والعوائل، وتراجع الاهتمام بالشأن العام، مع بقاء حالة الانتقاد الشديد أحيانًا للسلطة؛ مع الإشارة إلى أن انتقاد السلطة من عامة الناس كان في جزء كبير منه نابعًا من عوامل ودوافع شخصية، وليس انتقادًا مردّه بالضرورة نهج السلطة السياسي، أو موقفها وإجراءاتها ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
مثلاً كنت تجد سائق أجرة يعترض ويطلق انتقادات قد تتطور إلى سباب لأنه يشعر بخسارة أو لا تعجبه إجراءات وقوانين من الجهات المختصة بقطاع عمله، ويطعّم نقده وشتمه باستحضار مواقف سياسية، وقد تجد تاجرًا له ذات السلوك والألفاظ، أو حرفيًا أو طبيبًا أو محاميًا أو مهندسًا وهكذا.
وهذا النوع من (المعارضين) زائف لأن دوافعهم شخصية بحتة، ورغبة في التفلت من الضبط ومحاولة للتملص من اللوائح والقوانين، ولعل تجربة حركة حماس بعد أن صارت هي الحاكم الحقيقي في غزة مع هذه الحالات تثبت زيف أي معارضة تتوسل وتستدعي دعاية سياسية ودوافع أفرادها الحقيقية شخصية مصلحية نفعية.
حركة حماس كانت فرحة بقدرتها على تنظيم مهرجان بمناسبة وطنية أو دينية، وأن تستعرض الحشود وتطرب على الهتافات، والتي تتزامن مع تقدمها المستمر في انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات (تحدثت عن ذلك سابقًا)، إضافة إلى إقبال متزايد من الناس، منهم أفراد وقادة من خصومها السياسيين، على إقامة حفلات زفاف تحييها فرق إسلامية محلية جزء من أهازيجها وأناشيدها يعبر عن فكر حماس وخطها السياسي.
بالمناسبة نلحظ حاليًا تراجعًا بل انتهاء لظاهرة الفرق الإسلامية التي تحيي حفلات الزفاف، وصار طبيعيًا أن عرس أناس من قادة حماس المحليين تحييه فرقة موسيقية محلية، مثله مثل أي عرس آخر، وهذا عكس الحال في التسعينيات، مع أن شعبية حماس حاليًا وتأثيرها أكبر وأوسع، ولكن الأمر يتعلق بتغير اجتماعي من تأثير وانعكاسات التغريب والعولمة، أكثر منه سياسيًا.
ولكن فرح حماس بهذه الأمور لا يغير من حقيقة وجودها في مأزق حاد؛ فالجامعات وما فيها تخضع لسلطة تنفيذية، أو إدارات إن لم تكن فتحاوية تمامًا، فإنّها تمالئ فتح باعتبار أن فتح تمتلك السلطة التنفيذية والتشريعية، وعلى كل ما هو داخل أسوار الجامعات يظل محدودًا زمكانيًا.
وهذا الخطيب المفوّه فوق المنصة في الجامعة الذي يهاجم سلطة قادرة على سجنه متى تشاء وإطلاق سراحه متى تريد، والتقريع والنقد لحركة بسبب مواقفها، وهذه الحركة هي العمود الفقري لتلك السلطة حقيقة؛ عندما يتخرج سيبحث عن وظيفة قبوله فيها بيد تلك السلطة والحركة عمليًا، وإذا لم يفعل وقرر العمل في القطاع الخاص فهذا القطاع أيضًا محكوم بالنظام القائم على أرض الواقع، وما يفرضه من قوانين وشروط، وإذا وجد له مكانًا في مؤسسات حركته الإسلامية (كتبت عنها سابقًا) فحتى تلك المؤسسات صارت تحت مظلة النظام الذي صار أمرًا واقعًا وصار يتمأسس ويترسخ، مع كل الأزمات المحلية والمالية والصخب الإعلامي المعارض له.
لم تصدق. أو لنقل أخطأت التوقعات بأن غزة وأريحا (أولاً وأخيرًا) وأنه محال أن يسلم الاحتلال مناطق مثل جنين وقلقيلية وطولكرم ورام الله لقربها من الخط الأخضر أو القدس، ولكن حقيقة توسع وازداد نفوذ ودور ونطاق عمل السلطة محليًا ، وهذا أمر منفصل عن أزمات سياسية وميدانية، وتبين أن هناك مبالغات (ساهم فيها الإعلام الإسرائيلي) بأن "إسرائيل" ستعمد إلى تدمير الاتفاق وتعيد احتلال مناطق (أ) . حدث هذا بعد بضع سنين في ظروف مختلفة تمامًا عن مرحلة أواخر التسعينيات.
وسخرية شخصيات سياسية وإعلامية وأكاديمية في الداخل والخارج (في الخارج أكثر) وانتقاداتها الحادة للنظام السائر المتنامي في مناطق الضفة والقطاع، ومراهناتها، بل توكيدات تشبه القسم، أن هذا كله (سينهار قريبًا) ثبت حتى كتابة هذه السطور، أنه غير دقيق ونابع من فكر رغبوي لا يخلو من عواطف.
في ظل واقع كهذا من الطبيعي أن يسود شعور بالقهر والعجز، أو لأستخدم تعبير صحيفة (الرسالة) (التراخي) معظم قواعد الحركة الإسلامية، خاصة حماس والجهاد الإسلامي.
فإذا قلت بأن الحركتين كانتا فعليًا في جبهة ضد معظم العالم، أو متنفذيه ومالكي قراره السياسي، فأنا لا أبالغ بقدر ما أصف الواقع.
فالحفاظ على عملية التسوية وإبقاء ولو الحد الأدنى من مفاعيل ومخرجات اتفاق أوسلو مع عدم السماح بإقفال نهج المفاوضات كان من الأمور المتفق عليها سرًّا وعلانية بين الأمريكان والأوروبيين والروس والصينيين وسائر الآسيويين وبالتأكيد النظم العربية (باستثناء موقف النظام السوري والعراقي والأخير محاصر عاجز).
كيف ثبتت حماس؟
في كتابه (الطريق إلى الهزيمة) والذي صدر في زمن ذروة الإحباط من تغير الأحوال ومحتواه يرسخ الفكرة نفسها، والذي كتبه الراحل (عبد الستار قاسم) رحمه الله، توقع أن حركة حماس ستسير على نهج الإخوان المسلمين وستنخرط في النظام القائم وعملية أوسلو ومخرجاتها وستترك موقعها كحركة مقاومة رافضة لخط التسوية، وأشار إلى أن الجهاد الإسلامي سيظل على موقفه الرافض.
رؤية عبد الستار قاسم مستخلصة غالبًا من قراءة لمسلكيات مجموعات من الإخوان المسلمين في غير بلد عربي وإسلامي قبل كتابه وبعده، ولكن توقعات الرجل تبين أنها غير دقيقة وأن حماس حالة مختلفة عن كل فروع الإخوان.
مع أن هناك حالة إحباط أو تراخي، ومع وجود قيادات في حماس لم تتردد في محاولة استنساخ تجارب إخوانية، وكانت فكرة (حزب الخلاص الوطني الإسلامي) من تجليات ذلك النّفس والتوجه، أنوه أن صحيفة الرسالة المذكورة كانت تعرف نفسها بأنها صادرة عن الحزب المذكور.
ومع تراجع العمل العسكري وتناقص عدد المطاردين على خلفيته، ولكن لم تشهد حماس تغيرًا في نهجها ومواقفها، وبقي (حزب الخلاص) حبيسًا في غزة ولم يتمدد-رغم محاولات بعضهم- إلى الضفة الغربية. فيا ترى ما السبب في بقاء حماس على خط ورؤية ومنهج وبرنامج واضح يمثل خصمًا منافسًا حقيقيًا لفتح، وعدم تحقق توقعات عبد الستار قاسم وغيره؟ أليست حماس فرع الإخوان المسلمين هنا؟ ألا تدفع العوامل الدولية والإقليمية حماس لنهج (براغماتي) ولو مؤقتًا في ذلك الوقت العصيب، ولو من باب المناورة السياسية؟ لماذا حافظت على خطها السياسي، وصمدت حتى تترجم رؤاها في انتفاضة الأقصى؟ كيف ولماذا حصل هذا؟
بداية أنا أرى أن تقديرات الله -سبحانه وتعالى- وحكمته شاءت ذلك وسارت أمور كثيرة كمقدمة لنتائج رأيناها لاحقًا وفق التسيير الإلهي، وكما نقول دومًا: الإيمان بالغيب لا يعني ترك الاعتقاد بالسببية، وهناك مجموعة عوامل وأسباب حافظت على بقاء حماس على نهجها:
- تجارب الإخوان التي يتحدث عنها بعضهم، في دول نالت استقلالاً ولو جزئيًا، ولا تواجه مشروعًا اقتلاعيًا إحلاليًا كالمشروع الصهيوني، وبالتالي هي مقارنات مطعون في منهجيتها.
- قرار حماس السياسي هيمنت عليه قيادتها في الخارج، وهي قيادة ظلت بعيدة عن إكراهات الواقع وما تنتجه الإكراهات غالبًا من حسابات ضيقة أو رؤية مشوشة، وكان لتلك القيادات احترام كبير وتوقير من قيادات الداخل ولو اختلفت معها، وامتلكت قنوات التمويل وفضاء إعلاميًا وحرية حركة وتنقل أتاحت لها السيطرة، وحرصت قيادات الخارج على تحجيم ومحاصرة أي صوت داخلي يقدم رؤية يفهم منها أن ثمة تغير قادم في مواقف الحركة من عملية التسوية وأوسلو.
- صار لدى حركة حماس بمجاميعها المتنوعة ثأر وجراح نازفة بسبب مواجهتها للاحتلال، فهناك دماء شهداء من القادة والعناصر لهم أحبة يسيرون على نهجهم، كما أن هناك أسرى أحكامهم عالية، وملاحقات الاحتلال واستهدافه للحركة لم تتوقف لحظة، وهذه أمور تجعل مجموعات من الحركة -ولو قليلة- تواصل المواجهة الخشنة سيرًا على خط من سبقها وتمهيدًا لمن سيلحق بها، وعليه ظلت الحركة في اشتباك متواصل قد تخف حدّته أحيانًا مع الاحتلال، ولكنه لم يتوقف يومًا واحدًا.
- بناء على (3) صار رموز حماس المؤثرون شهداء (المهندس يحيى عياش مثلاً) أو معتقلين وأسرى أو مطاردين للاحتلال وغير ذلك، بعيدًا عن تأثيرات كاتب أو متحدث من الحركة يغرد خارج السرب، وأصبح رصيد المقاومة والتضحية هو الأساس، وهذا طمس وأسكت أي أصوات شاذة.
- قدمت حركة حماس على لسان الشيخ أحمد ياسين ود.موسى أبو مرزوق وغيرهم من القيادات في فعاليات سياسية وإعلامية ومناسبات مختلفة تصورًا للهدنة والتهدئة يقوم بحده الأدنى على ما تطالب به السلطة وفتح -مع اختلاف الطريق- مثل انسحاب الاحتلال إلى حدود 1967 وإطلاق سراح الأسرى وحق عودة اللاجئين وتفكيك المستوطنات، وهي بهذا تلقي الكرة في ملعب العدو، والذي بالتأكيد يرفض تلك المطالب، وهذا أعطى للحركة هامش مناورة يبقيها على نهجها وخطها.
- هناك مسألة أخرى، وهي المنافسة في ميدان المقاومة مع حركة الجهاد الإسلامي، فهناك جزء من الشارع يريد الاستقطاب الواضح الذي لا تشوبه شائبة، ولن يستمع إلى كلام حمّال أوجه، ويريد إما (تأييدًا أو معارضة) بلونين متميزين لا يمتزجان، وكان بعض كوادر الجهاد الإسلامي في تلك الفترة يكررون ويرددون ما قاله عبد الستار قاسم بذات العبارات أو بذات المعنى، ومن الطبيعي أن يكون في حماس من سيقرأ الأمور بهذه الطريقة (يوجد عندنا بديل إسلامي) وعليها الحفاظ على خط واضح الرفض لعملية التسوية وأوسلو وتوابعها.
في المقال وربما المقالات القادمة بمشيئة الله سأواصل استعراض محاور مهمة بين يدي انتفاضة الأقصى.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس تعبّر عن آراء كتابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.