لمحات من التاريخ الفلسطيني القريب.. بعد أوسلو وقبل الانتفاضة الثانية - الأوضاع ضبطت والعمليات تراجعت و"إسرائيل" في أوج غطرستها
رأي
لمحات من التاريخ الفلسطيني القريب.. بعد أوسلو وقبل الانتفاضة الثانية
الأوضاع ضبطت والعمليات تراجعت و"إسرائيل" في أوج غطرستها
سري سمّور
من الأحداث المهمة التي أرى ضرورة تذكرها عند الحديث عن مرحلة ما بعد أوسلو قبل انتفاضة الأقصى، مسيرة المليون؛ فقد وجه الرئيس عرفات دعوة إلى جماهير الشعب الفلسطيني إلى مسيرات حاشدة في كافة المناطق مع فعاليات للذكرى الخمسين للنكبة الكبرى، فما تعتبره "إسرائيل" "اليوبيل الذهبي" هو ذكرى نكبتنا المتواصلة وما نتج عنها.
تمكنت حركة فتح والسلطة من تنظيم فعاليات وحشود كبيرة بهذه المناسبة منتصف مايو/ أيار 1998، فالتحشيد الإعلامي وقتها، كان له دور في زيادة الحشود، إضافة طبعًا إلى جموع الموظفين وطلبة المدارس الذين تجمعوا في شتى المواقع والميادين التي تم تحديدها، وخاصة في المخيمات، فمثلاً تم تخصيص مكان في مخيم جنين، جاء إليه المتظاهرون من المدينة والقرى المختلفة في من محافظة جنين، لأن المخيمات تعبر عن النكبة ورمزيتها، وتذكّر بالاقتلاع والتهجير.
وفي قطاع غزة كان الوضع متوترًا فقد تخللت المسيرات والمظاهرات مواجهات مع قوات الاحتلال في مختلف نقاط التماس، استخدمت فيها الحجارة والزجاجات الفارغة والحارقة، ولكن ردّ قوات الاحتلال كان عنيفًا فقد أطلقت النار باتجاه المتظاهرين مما أدى إلى استشهاد حوالي تسعة منهم، إضافة إلى عشرات الإصابات المختلفة. نلاحظ أن التصرف الدموي هذه المرة تركّز في غزة دون الضفة.
وفي هذه المواجهات لم تقع اشتباكات مسلحة بين قوى الأمن الفلسطينية أو مسلحين من حركة فتح أو غيرهم من جهة وقوات الاحتلال من جهة أخرى، مثلما حدث في أحداث النفق، فقد كان واضحًا أن هناك ضبطًا للأمور كي لا تتطور بهذا الاتجاه من الجانب الفلسطيني، مع أن الاحتلال وجه -كالعادة- اتهامات بوجود إطلاق نار تجاه تجمعاته من قبل الأمن الفلسطيني.
وغداة المجزرة عادت الأمور والحياة إلى طبيعتها وكأن شيئًا لم يكن، باستثناء عناوين الصحف المحلية، مع أن هذا العدد من الشهداء هو الأعلى منذ هبة النفق، ولكن بدا وكأن المقصود توجيه رسائل في ذكرى مرور نصف قرن على النكبة، ربما تضاف إلى رسائل أخرى مشابهة.
من تلك الرسائل قدرة حركة فتح عمومًا والرئيس عرفات خصوصًا على حشد وتوجيه الجماهير والفعاليات، وضبط الحشود وتحديد مديات تحركاتها. ليست هذه المرة الأولى التي توجه فيها مثل هذه الرسالة، ولكن هذه المرة لم تستخدم الأسلحة النارية؛ فـ "إسرائيل" هددت وتوعدت أنها لن تسكت إذا حصل تنغيص من الجانب الفلسطيني على احتفالاتها بذكرى ما تسميه "حرب الاستقلال"!
ورسالة في تلك المناسبة إلى الدول العربية والغربية وغيرها بأن قضية فلسطين لم تُحل وما زال هناك لاجئون في المخيمات، وأن هناك خيارات أخرى في جعبة الفلسطينيين، وأنه يجب عدم التعامل مع قضية فلسطين، وكأنه تم الاتفاق على الحل، والخلاف حول بعض التفصيلات الإجرائية.
إضاءة على الاستقطاب وجوهره
في ذروة أزمة مستوطنة هارحوماه التي شرع الاحتلال بإقامتها على جبل أبو غنيم جنوب مدينة القدس؛ والذي تحدثت عنها بشيء من التفصيل في مقال سابق في كانون ثاني/ يناير الماضي، استضاف أحد البرامج التلفزيونية المحلية (تحدثت عن التلفزيونات المحلية تلك الفترة) في جنين عدة شخصيات للحوار والنقاش حول ما يجري وكيفية التصرف، وأي الطرق أجدى وأنفع في ظل الصلف الإسرائيلي والاستهتار والتنكر حتى لما تم التوقيع عليه.
كان ممثل حركة حماس في البرنامج وقتها هو الشيخ جمال عبد السلام أبو الهيجا، الأسير حاليا والمحكوم بالمؤبد 9 مرات، والذي أعرب عن موقف حركته بأنه لا حل إلا بالمقاومة الخشنة العنيفة، وقال: "مهو مش معقول إحنا قاعدين بنشرب شاي وقهوة بهاي الجهة وهم قاعدين بجرفه وببنو مستوطنة!". وقد كرر هذه العبارات أكثر من مرة في ذلك اللقاء.
أبو الهيجا كان يشير إلى خيم اعتصام وضعت قرب موقع التجريف (أزيلت لاحقًا) كتعبير عن الرفض بأسلوب سلمي لإقامة المستوطنة، وكان من أبرز الحاضرين في ذلك الاعتصام القيادي في فتح وعضو المجلس التشريعي (انتخابات 1996) صلاح التعمري.
كان رد ضيف البرنامج عن حركة فتح أنه يراهن على الديموغرافيا وأن لدينا 4 مليون فلسطيني في وطنهم، وأن لا مستقبل للمستوطنين في ظل صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه وتمسكه بحقوقه.
ممثل الجبهة الشعبية وقتها حاول أن يبدو كمن يمسك العصا من المنتصف، ولكنه أيضًا كان منتقدًا لرؤية فتح في التعاطي مع الأزمة والصراع عمومًا.
لو قلت بأن تلك المناقشة تلخص أو تشرح باختصار لبّ الخلاف وجوهره ومحور الاستقطاب الثنائي، وماهية التباين البرامجي، والذي ما زال مستمرًا بطريقة أو بأخرى، وتمخض عنه ما نعلم من أحداث وتطورات عبر سنوات، فأنا لا أبالغ.
وكما قلت في مقال سابق، توتر العلاقة والتصعيد الإعلامي مع نتنياهو وحكومته، لم يكن يوازيه أو يردفه تحسن في العلاقات الداخلية، بين حماس والجهاد الإسلامي من جانب والسلطة وفتح من الجانب الآخر.
كان قرار السلطة هو التلويح بخيارات مفتوحة في المواجهة، مع إبقاء حالة من الضبط الشديد والتضييق على حماس والجهاد الإسلامي خاصة فيما يخص نشاطهما العسكري المقاوم، وقد وضعت السلطة يدها على مختبرات لتصنيع المتفجرات في نابلس وغيرها، وتم تفكيك العديد من الخلايا التي كانت تستعد لتنفيذ عمليات استشهادية أو غيرها.
وكان التركيز على الساحة الدولية ومواقف الدول التي تبدو نظريًا ضد الاحتلال الإسرائيلي ومع الحق الفلسطيني؛ وقد تحدث الرئيس عرفات في غير مناسبة بأن"إسرائيل" معزولة لأنه حسب تصويت جرى في الأمم المتحدة كان هناك ("إسرائيل" والولايات المتحدة ومكرونيزيا) فقط ضد دول العالم التي صوتت مع الفلسطينيين.
بالتأكيد قبل ذلك لم نسمع بمكرونيزيا هذه. ووقوف هكذا دولة هامشية بعيدة عن المنطقة (جزر في المحيط الهادي)، مع الكيان الصهيوني يبدو مضحكًا، وسببه مساعدات أمريكية مالية.
ولكن "إسرائيل" كانت من العجرفة والتعالي، بحيث لا تهتم لشيء ما دام الفيتو الأمريكي جاهزًا دائمًا، ومعه إدارة ومؤسسات أمريكية تدعمها دعمًا مطلقًا وبلا تردد، مع موقف عربي متهالك متردد ضعيف أو متآمر، ديدنه الاستسلام للإملاءات الأمريكية مهما كانت.
وعلى أرض الواقع فإن "إسرائيل" رغم الانتقادات الدولية العلنية أو الضمنية، هي الأقوى والتي تفرض على الأرض سياسات ووقائع وقوانين، دون اكتراث بمواقف تنتهي بعد مدة زمنية قصيرة، علمًا بأن تلك المواقف إعلامية فقط.
وعند احتفالها بذكرى تأسيسها الخمسين بدت "إسرائيل" في أوج وذروة قوتها، خاصة مع ترسخ وتعاظم سياسة القطب الواحد الأمريكي، وسعي الأمريكان العلني إلى تحويل الكوكب إلى مزرعة خاصة بهم تصطبغ بثقافتهم وتتبنى أفكارهم ومفاهيمهم بلا أدنى مقاومة.
وقد علّق أحد منظري الأمريكان في تلك الفترة عن الحالة التي تعيشها الولايات المتحدة بأنها الأقوى والأغنى: أوروبا سوق لمنتجاتنا، وروسيا نمر من ورق، والصين دولة ثانوية.
و"إسرائيل" بالطبع وصلت مرحلة متقدمة من الهيمنة والسطوة داخل المؤسسات الأمريكية المختلفة.
ولكن مع ذلك كان هناك أمل في المقاومة، مع كل العقبات والصعوبات، خاصة مع تقدم وتصاعد المقاومة اللبنانية، ولو في وقت أُنهكت واستنزفت المقاومة الفلسطينية، وأثخنتها الجراح.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبر عن آراء كتابها، وقد لا تعبر عن رأي المركز.