ما بين الهزيمة في لبنان وواقعة عصيرة.. غليان فلسطيني
رأي
ما بين الهزيمة في لبنان وواقعة عصيرة.. غليان فلسطيني
سري سمّور
لم يكن الاندحار الصهيوني من جنوب لبنان ليمر كحدث عابر على الجانب الفلسطيني؛ فقد ازدادت أعداد -بل نسبة- المقتنعين بضرورة المقاومة المسلحة ضد الكيان وأن هزيمته شيء ممكن وليس محالاً.
وهناك عدة انعكاسات وتأثيرات حدثت، تزامنت مع تطورات أوصلت الأمور إلى الانفجار، أي اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/ سبتمبر 2000 .
لا أقول بأن ما جرى في لبنان كان صاعق التفجير وحده، ولكنه كان عاملاً مركزيًّا ومهمًّا، إضافة إلى ما أوضحته في المقال السابق عن إعداد خطط صهيونية للعدوان على الشعب الفلسطيني بعد الهزيمة في لبنان.
تفسير عقيم
هناك من الفلسطينيين من قال علنًا بأن انتصار حزب الله على الصهاينة (هو انتصار منهج آل البيت!) وصرح همسًا خافتًا أو مسموعًا بأن انتصار حزب الله مرده هو انتساب الحزب للمذهب الشيعي، وأن التشيع يحمل في طياته الثورة على الظالمين والتمرد، بينما التسنن يميل إلى المهادنة والموادعة للظالم، وقد تسربت نسخ من كتاب الناشط في التيار الإصلاحي في إيران (عباس خامة يار) الموسوم بـ(إيران والاخوان المسلمين: دراسة في عوامل الالتقاء والافتراق) والذي يخلص فيه إلى أن مشكلة الإخوان وعدم قدرتهم على إقامة دولة إسلامية مثلما حصل في إيران يعود إلى (الفقه السني) الذي يقتبس المؤلف من تراثه ما يعزز هذه الفرضية الغريبة، بانتقائية واضحة مقطوعة عن السياق التاريخي، بدعوى أنه فقه وفكر ليس ثوريًّا ينتهج المفاصلة، بعكس الفكر الشيعي حسب المؤلف!
لقد وجد الكتاب طريقه إلى السجون الصهيونية، وإلى المكتبات في فلسطين، والأهم إلى نفر من القرّاء (أتفق مع نظرية إن قلة من الناس هنا لديهم الاستعداد لقراءة أي كتاب) تأثروا بفكرته ومحتواه وأخذوا يروجونها في الشارع الفلسطيني. بالطبع فشلوا في إقناع الناس -إلا قلة لا تذكر- بهذه النظرية العقيمة.
والرد البسيط على هذه الفرية، أن المذهب الإمامي الجعفري الاثني عشري غلب عليه لقرون طويلة حالة السكون والانتظار، فجاء الخميني وأحدث ثورة في الفكر الشيعي، بأن انتظار عودة الإمام الغائب (حسب معتقد الشيعة هو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب في سامراء، وهو الإمام الثاني عشر عندهم) دون التحرك والعمل السياسي والميداني لا يجوز. كما أن ثورات أهل السنة أكثر من أن تعد، وحتى خروج الحسين بن علي-رضي الله عنه- من مكة إلى العراق لا يمكن نسبته إلى مذهب تبلور بصورته الحالية بعد قرون طويلة!
وهناك من أخذ يروّج للتشيع، مدفوعًا بالإعجاب بإنجازات ومقاومة حزب الله، بطريقة جمع روايات متفرقة ووضعها في كتاب يُستخلص منها أن الخلاف بين الشافعية والحنفية مثلاً أكثر من الفارق بين السنة والشيعة!
ولم يكن الجمهور الفلسطيني، وإن رحب وفرح بالنصر في لبنان يتقبل التفسير المذهبي العقيم لهذا النصر، لأن طبيعة الفلسطينيين تأييد من يتصدى ويقاوم الاحتلال، لهذا مثلاً تجد كثيرًا من الناس يحبون صدام حسين لأنه قصف الكيان بالصواريخ مع مواقف أخرى داعمة للقضية الفلسطينية، ولكنهم يرفضون فكر حزب البعث، وأتباع الحزب في فلسطين لا يملؤون مايكروباص. وهذا ينسحب على الآخرين بلا ريب.
ولا بد من التعريج على نقيض أصحاب هذا التفسير العقيم من أتباع التيار السلفي، الذين انتعشوا مثلهم مثل تيارات أخرى لا تصادم الاحتلال في فترة الهدوء النسبي ما بعد أوسلو، الذين فسروا الانسحاب الإسرائيلي من لبنان تفسيرًا موازيًّا لنقيضه في العقم والسطحية؛ فقالوا: الهدف نشر التشيع بين أبناء الأمة خاصة في فلسطين، مع ضخهم المكثف لمسائل ونقاط الخلاف بين السنة والشيعة في منابر عدة.
وهؤلاء أيضًا عمومًا فشلوا. فكلا الفريقين يغيب عن باله طبيعة الجمهور الفلسطيني، الذي يقدّر ويحترم ويبجل كل من يقاتل الحركة الصهيونية بموقف أو بفعل مادي، أكان شيعيًّا أم شيوعيًّا، قوميًّا أم أمميًّا، أو غير ذلك.
والأهم من كل هذا الجدل (المذهبي) أن حزب الله نفسه لم يقل ذلك ولم يسعَ لتصدير هذه الأفكار عبر منابره السياسية والإعلامية وعلاقاته العامة. أعني فكرة ربط التشيع بالإنجاز الميداني من عدمه!
فتح والسلطة
شعرت فتح والسلطة بأن المقارنة بين لبنان وفلسطين، ستطفو على السطح، مع مطالبات صريحة وضمنية باقتداء نهج المقاومة، فواجهت هذا الأمر بمستويات عدة، لا أقول بناء على تخطيط مدروس بقدر ما هي ردة فعل، في وقت تاريخي حرج ترى فيه أن الوضع بات على مفترق طرق، وأن الانفجار قادم والمسألة مسألة وقت.
الرئيس عرفات البارع في المناورات والتكتيكات الإعلامية صرّح باللغة الإنجليزية أمام بعض وسائل الإعلام الأجنبية بأن "إسرائيل" لم تنسحب بسبب (حزب الله) بل التزامًا بقرار مجلس الأمن.
بالطبع القصد من التصريح إرسال رسائل مختلفة إلى الخارج، وليس إلى الداخل الفلسطيني. الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله علّق بتهكم عابر على ذاك التصريح، ولكنه وماكنة الحزب الإعلامية تجنبوا الدخول في معركة إعلامية، يعرفون أنها ستفقدهم ما عزموا عليه وهو السعي إلى نقل التجربة والنموذج إلى الساحة الفلسطينية، وبالذات إلى حركة فتح أو قطاع منها.
وتأكيد الحزب المستمر آنذاك أننا لا نريد تعليم الفلسطينيين لأننا أصلاً تعلمنا من الفدائي الفلسطيني وهو سبقنا... إلخ.
قيادات من فتح ومنابر إعلامية تابعة لها أعادت التذكير بأن الحركة دربت عناصر من الحرس الثوري الإيراني، وأنها وفرت للمقاومة الشيعية دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا إبان الوجود في لبنان، وأيضًا رفضت المقارنة بين حالة فلسطين وحالة لبنان وحزب الله بالتأكيد على الاحترام والتقدير للإنجاز ولكن هو إنجاز تم بفعل دعم دولتين وازنتين في الإقليم (إيران وسورية) وأن الظرف الفلسطيني والواقع الجيوسياسي لا يسمح باستنساخ التجربة.
ولم يكن هناك منع وحظر لأي نشاط احتفالي بانتصار حزب الله؛ وغالبًا الاحتفالات كانت داخل أسوار بعض الجامعات ولم تنظم مسيرات في الشوارع ابتهاجًا باندحار العدو، ولكن غلب على الناس هنا الارتياح والتشفي.
حماس والجهاد الإسلامي
قلت في مقالات سابقة إن قدرة حماس والجهاد الإسلامي على العمل العسكري قد تراجعت كثيرًا، وعشية اندلاع الانتفاضة كان يمكن القول إن العمل يكاد يكون نادرًا أو معدومًا.
وبالتأكيد رأت الحركتان فيما تحقق في لبنان عاملاً يدعم ويعزز خطابهما الذي استمر في مخاطبة الجمهور والخصوم السياسيين: الحل هو المقاومة ولا فائدة من التفاوض ولا داعي للمراهنة على الأمريكان والأوروبيين.
وبالطبع وصلت الحركتان إلى قناعة بأنه دون انخراط حركة فتح أو جزء منها في هذا المشروع أو المسار فسيبقى طرحهما جامدًا مكررًا، خاصة مع شلّ قدرتهما على الفعل.
مع التنويه أن حماس والجهاد الإسلامي، ومنذ بدء المفاوضات في مدريد وما بعدها توطدت علاقتهما مع إيران وسورية.
وتشجعت الحركتان ورفعتا صوتهما أكثر بعد انتصار حزب الل ه(صاحب العلاقة العضوية مع إيران وحليف سورية) بأنهما مستعدتان لخوض تجربة مشابهة ليس بالتكتيك الميداني بالضرورة، ولكن بخوض مقاومة استنزافية تجبر الاحتلال على الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة دون التزامات فلسطينية سياسية أو أمنية أو غيرها، ما دام تحرير كل فلسطين غير ممكن في الظرف الحالي.
واقعة أبو هنود
وهناك حدث وقع قبيل انتفاضة الأقصى لا بد من التطرق إليه، وبه أختم هذه المقالة، ساهم كثيرًا في رفع معنويات حركة حماس رغم أزمتها، ومعها -بلا ريب- جمهورها وقطاع لا يستهان به من الجمهور الفلسطيني، وزاد من الغليان المؤذن بانفجار كبير.
فقد حاصرت قوة كبيرة جدًّا من الجيش الإسرائيلي أواخر آب/ أغسطس 2000 بلدة عصيرة الشمالية شمال مدينة نابلس، سبقها تسلل وحدة مستعربين من الجيش الصهيوني، بهدف قتل أو اعتقال (محمود أبو هنود) وهو من أهل البلدة (تصنف ضمن مناطق "ب" وهي التي يسمح للاحتلال بدخولها وفق اتفاق أوسلو) وكان قائد كتائب القسام الذراع المسلح لحركة حماس في المنطقة، بل فعليًّا هو القائد الوحيد، في الضفة لها، خاصة في تلك الفترة، ولم يكن تحت إمرته سوى بضعة مساعدين، وهو مسؤول عن تجهيز عدة استشهاديين أيضًا من بلدته عصيرة الشمالية.
وقد تمكنت قوات الاحتلال مستعينة بالمروحيات من تطويق المنزل الذي تحصّن فيه أبو هنود، وفي هذه الأوضاع ومن تجارب مشهودة سابقة ولاحقة، فإن النهاية المتوقعة هي الاعتقال أو الاستشهاد.
لكن محمود -استشهد لاحقا في 2001- تمكن من مباغتة القوات، واشتبك معهم بإطلاق النار والقنابل اليدوية، فقتل ثلاثة جنود وجرح آخرين (يؤكد شهود عيان أن عدد القتلى والجرحى أكثر مما أعلن) وانسحب من المنزل وسار وهو مصاب إصابات مختلفة في الكتف والذراع والخاصرة، مدة 6 ساعات مسافة 20 كيلومترًا، واستطاع الإفلات من ملاحقة كشافات الليزر والكلاب البوليسية التي كانت تقتفي رائحة دمه النازف، ومن جبال عيبال دخل إلى مدينة نابلس، التي تصنف كمنطقة (أ) أي لا تدخلها قوات الاحتلال في ذلك الوقت والظرف، واستطاع الوصول إلى مشفى تحت حراسة أفراد من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية الذين تسلموه بعد حوار سريع معه.
حاول الاحتلال التقليل من حجم الصفعة بالقول بأن الجنود القتلى قتلوا بالخطأ (بنيران صديقة) نتيجة خلل في التنسيق بين القوات المنتشرة في البلدة، ولكن ما صدر عن الاحتلال وإعلامه أوضح أنهم يشعرون بمرارة الهزيمة وأن ما جرى (فشل لا مثيل له) فوحدة (دوفدوفان) النخبوية في جيشهم فشلت في مواجهة رجل واحد بكل ما تمتلك من عدة وعتاد وتقنيات حديثة، إذا قلنا بأن حزب الله لديه آلاف المقاتلين المدربين المجهزين العاملين في بيئة مريحة نسبيًّا، فماذا عن (محمود أبو هنود)؟
هذه الحادثة التي جاءت بعد أسابيع من اندحار جيش العدو من لبنان عززت القناعة بأن هذا الجيش يمكن أن يهزم، فها هو أبو هنود وحده يفلت منهم بعد أن أوقع فيهم مقتلة مشهودة، ويسير كل هذه المسافة وهو جريح ويصل سالما إلى نابلس.
وقد نظمت حركة حماس مهرجانًا في عصيرة احتفالاً بهذه المعركة بحضور قيادات بارزة منها من مختلف المناطق، معتبرة أن هذا إنجاز جديد لها ولمشروعها وتعزيز ومحفز للمقاومة وضرورة استئنافها والالتفاف حولها باعتبارها الخيار الوحيد لدحر الاحتلال. وأيا يكن فإن واقعة عصيرة الشمالية البطولية آنذاك قرّبت موعد الانفجار المنتظر، وأيضًا زادت من قناعة قادة الصهاينة بأنه يجب ألا يكون هناك ما تسميه (الملاذ الآمن للإرهاب). ونكمل في مقالات لاحقة بمشيئة وعون الله تعالى.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن رأي كتابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.