ماذا وراء الجلبة الأمنية الصهيونية في تركيا؟

خلدون محمد
27-06-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

تقدير موقف

ماذا وراء الجلبة الأمنية الصهيونية في تركيا؟

خلدون محمد

على مدى أيام الأسبوع الماضي يقوم الإعلام الصهيوني ببث الإنذارات التي يطلقها كبار السياسيين، بالإضافة إلىأجهزة المؤسسة الأمنية الصهيونية، وهي إنذارات ساخنة جدًّا حول حدث وشيك تعلن معه حالة طوارئ من الدرجةالأولى، حول تهديد إيراني استخباري محتمل يستهدف محاولة خطف وملاحقة شخصيات صهيونية هامة أواغتيالها، بالإضافة إلى استهداف جمهور السياح والأفراد "الإسرائيليين" الموجودين في مدينة إستانبول.

ومثل هذه الإنذارات تطال عدة أطراف: "إسرائيل"، تركيا، وإيران، ثم الجمهور الصهيوني، فضلًا عن أطرافأخرى في الإقليم والعالم. وإن مثل هذه الجلبة الأمنية ألفنا أشباهها على مدة صراعنا الطويل مع العدوالصهيوني، فهي وبالطريقة الدرامية التي يتم تقديمها بها، من النوع الذي ينبؤك بأن هناك طبخة او أحداثًا يجريالتدبير والإعداد لها، أو السعي لترتيب مسرح أحداث في مكان آخر، فقد اعتدنا من السلوك الصهيوني المعاديأنه يعطي تركيزه غربًا، ويكون في حقيقة الأمر منْصبًاعكسه تمامًاشرقًا!! ولكن في هذه الأجواء الساخنة ماالذي يمكن فهمه واستنباطه من مجمل هذه الجلبة وهذا السلوك في مطلع هذا الصيف شديد السخونة؟ وكيفيمكن تفسير انعكاساته على أطرافه المختلف؟

 

أولًا، بالنسبة للجمهور الصهيوني الذي لم يكن قابضًا لهذه الجلبة. فرغم المطالبات الملحة بعودة السياح، لم نجد أحدًا منهم يستجيب، لا بل إن برنامج الرحلات السياحية إلى تركيا بقي محافظًا على زخمه، ونقلت القنوات الإخبارية الصهيونية تقاريرها اليومية التي أظهرت عدم اكتراث ولا مبالاة شديدة من قِبَل الأفراد العاديين، وكأن هؤلاء يفهمون ضمنًا أن ما يجري هو نوع من مسرحية يراد أن يكونوا أحد أطرافها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يشهد الكيان الصهيوني في الشهور الأخيرة تمارين واستعدادات غير مسبوقة على نطاق محلي وقُطري وإقليمي أيضًا، فقد يكون ما جرى من جلبة أمنية هنا داخلًا في باب التدريبات الممتدة والمتنوعة الأغراض والغايات.

وثانيًا، بخصوص تركيا واختيارها "صهيونيًا" كمسرح أحداث. فإننا نعتقد أن تركيا (أردوغان – العدالة والتنمية) ورغم تغيير دفة السياسة التركية اتجاه "إسرائيل" غير أنها موضوعة تحت الاختبار "الإسرائيلي"، فإن أصواتًا صهيونية استراتيجية تقول، إن تغيير سياسة أردوغان "الإسرائيلية" شيء جيد، ولكن لا يجعلنا هذا لوحده نركن إليه حتى يتم اختباره وتجربته وتمريره عبر ماكينة الفحص "الإسرائيلي". ونعتبر هنا، هذه الجلبة وما رافقها وصاحبها من اتصالات أمنية وسياسية هي نوع من التأكد، بأن الأتراك غدوا يشتغلون ويتعاونون بما يتلاءم ويتوافق والاعتبارات والمصالح الصهيونية، وهذا السلوك "التوريطي" معروف جيدًا لمن خبر طريقة التفكير الصهيونية. ولربما يتطلع ذلك التوريط إلى جر تركيا إلى صيغة من صيغ التحالف الآخذ بالتبلور الذي تقوده "إسرائيل" في مواجهة إيران.

لذلك كان من الملفت للنظر ما نقله مراسل الجزيرة في تركيا بأن وسائل الإعلام التركية هي التي تتداول الجلبةالمثارة، في حين أنه لم يصدر أي إعلانات أو تصريحات رسمية من قِبَل مصالح الأمن أو الدبلوماسية التركية، وهذايعطي انطباعًا بتحفظ الأتراك حول هذه الجلبة، رغم محاولتهم "الإفادة" من نسج علاقاتهم "التطبيعية" التييريدونها في سبيل غاياتهم الاقتصادية، فاستقبلوا وزير خارجية العدو، كما قام بينت بتقديم شكره لأردوغان علىحسن تعامله الأمني، من أجل تثبيت درجة ذلك التعاون وذلك التوريط "إسرائيليًّا". أما في حسابات أردوغان فربمايعتقد أنه سحب نقطة إيجابية جديدة في محاولة إعادة بناء علاقات عامة "طيبة" مع شركائه في محاولته استعادةعلاقاته السابقة بهم!!

وأما إيران، ثالثًا، وهي موضوع الجلبة فقد صمتت لأيام طويلة. ولكن جاءت إعلاناتها في اليومين الأخيرين لتفضح النوايا الصهيونية، فقد أنكرت إيران قيامها بملاحقة أهداف صهيونية على أرض طرف ثالث، كما حذّرت إيران من المسعى الصهيوني في تعكير العلاقات الأخوية مع الأتراك (خاصة وأن هناك علاقات مصالح اقتصادية وسياسية عميقة وكبيرة مع تركيا، يُستبعد معها المرء أن تقدم إيران بنشاطات أمنية على الأرض التركية). وأكثر من ذلك، قامت الحكومة الإيرانية في الآن نفسه، بإقالة وزير الاستخبارات في الحرس الثوري، في ما يبعث على تكهنات عديدة في مثل هذه الملابسات، ولا نستبعد هنا أن تكون الاستخبارات الصهيونية قد نجحت في اختراق بنية الاستخبارات الإيرانية وقامت بتدبير وتوجيه ونسج هذه الدراما الأمنية الأخيرة التي جرت أحداثها المفترضة في شوارع وميادين مدينة إستانبول، وهو ما جعل مصالح الأمن والسياسة التركية تبدي نوعًا من التحفظ في التعاطي مع الحكاية.

ورابعًا، فقدد يتساءل المرء: وما الذي تريده "إسرائيل" من هذه الجلبة؟ طبعًا، تشهد هذه اللحظة تشابكات وتداخلات كثيرة، سواء ما له علاقة بالحرب السرية الضارية الجارية بين الكيان الصهيوني وإيران، أو ما له علاقة بتقويض البرنامج النووي الإيراني، وسد الطرق أمام أي عودة مرتقبة إلى الاتفاق النووي بين إيران والغرب، أو ما له علاقة ببناء الحلف الآخذ بالتبلور الذي تقوده "إسرائيل" في الشرق الأوسط والعالم، لمواجهة إيران، وربما لخوض الحرب ضدها. هذا فضلًا عن تداعيات الحرب في أوكرانيا على المشهد شرق الأوسطي.

وبعيدًا عن هذه الشبكة العلائقية، فمن طبيعة الحدث "الشرق الأوسطي" أن يكون علائقيًّا ومتعدِّيًا بالضرورة. ولكنما نعتقده أن "إسرائيل" تسير نحو حرب مباشرة مع إيران، وكل الدلائل والمؤشرات والتحضيرات والاستعداداتتوحي بذلك، وحتى مع حل الحكومة الحالية فقد أوكلت أمور الحرب إلى وزير دفاعهم "غانتس" وخُوِّلَ بذلك. ومارأيناه في الجلبة الأمنية التي جرت على الأرض التركية، والتي أعلن العدو أن فصولها لم تنته بعد، يذكرنا بالشهورالتي سبقت حرب اجتياح بيروت عام 1982، فمنذ توقيع الهدنة بين تموز 1981 ووقوع الحرب في حزيران 1982،كانت الخطط والسناريوهات للحرب القادمة مُعدة، ومعلومة ومعروفة لدى استخبارات العديد من الدول ودبلوماسييهاوسياسييها، كما تُظهر ذلك وبجلاء الكتب الكثيرة التي وثقت لتلك الحرب. وكانت أيام الشهور إياها، مليئةبالتهديدات والإنذارات والتحذيرات، حتى إذا ما جاء حادث محاولة اغتيال السفير الصهيوني في لندن الذيأصيب في الحادث، وقيل إن "جماعة أبو نضال" هي من قامت به، فإذا "بإسرائيل" تتخذه الذريعة والسبب لشنالحرب الذي لم يكن يبق لحدوثها سوى وقوعه، وما يمكن أن نتكهن به هنا، هو أمر شبيه مع اختلاف الظروفوالملابسات، ولكن يمكن أن تبني "إسرائيل" على حدث درامي كبير، يُعد له بشكل جيد على الأرض التركية، وربماعلى غيرها، لاتخاذه الذريعة المادية المباشرة للبدء في الهجوم. والله أعلم.