متخمون بالاحتلال

خلدون محمد
28-05-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

 رأي

متخمون بالاحتلال

خلدون محمد

 

إن أبسط تعريف للحياة الطبيعية تحت الاحتلال، أنها غير طبيعية! فأنت هنا لا يمكن لك أن تمارس عاديَّاتك الحياتية كما يمارسها الإنسان العادي، في أي مكان آخر من هذا العالم. والأمثلة على هذه القاعدة لا تكاد تحصى، فهي تتناسل يوميًّا. ولا بأس للتعريج على بعضها لتعريف من هم خارج اختبار الحياة تحت الاحتلال... وليس أي احتلال، إنه الاحتلال الاستعماري الصهيوني الإحلالي التوراتي، الذي له طابعه وأنماطه وأساليبه وطرائق تحكمه التي تميزه عن غيره من الاحتلالات التي عرفها التاريخ الحديث.

في ثمانينيات القرن العشرين، وأثناء الانتفاضة الأولى، كان الطالب الجامعي الذي تستغرق مدة دراسته في البكالوريوس ست سنوات، يُعدُّ محظوظًا، مقارنةً بآخرين يمكن أن تستغرق دراستهم ثماني أو عشر سنين أو أكثر، ولا يتوقف ذلك على سنوات الانقطاع القسري التي يمكن أن يمضيها الطالب في الاعتقال، وإنما بسبب الإغلاقات المنهجية المتكررة التي كانت تتخلل الفصول الدراسية، بعضها كان لشهر أو لشهرين وأحيانًا لأربعة أشهر، وفي الانتفاضة الأولى استمر الإغلاق لخمس سنين متصلة!

 أما في أيامنا هذه، فيستغرق وقت وصول الطالب من مدينة القدس المسجّل في جامعة بيرزيت التي تبعد عن منزله )30( كم فقط، أقل من (4 - 5) ساعات، في حين أنها كانت سابقًا (قبل ثلاثة عقود) تستغرق 30 – 40 دقيقة فقط. ومن بين المعابر الإجبارية التي عليه عبورها يوميًّا، "معبر قلنديا"، الذي يشبه -بإجراءاته وشروط عمله وأنظمة حراسته والفحص الأمني- المعابر الدولية، لا يفترق عنها بشيء، ومثله تتناثر مجموعة معابر "دولية" في المفاصل السياسية في الضفة الغربية: حوارة، الكونتينر، بيت سيرا، ترقوميا، الظاهرية، الجبعة، جبارة، نعلين... إلخ، وفي مثل هذه المعابر، ولأي سبب جانبي وطارئ، يغلق المعبر، وربما يصبح ميدان رماية قد يذهب ضحيته عابر سبيل تصادف وجوده في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ، وربما يكون ضحيته ذلك الطالب!

ومن عاديّات ناس ما تحت الاحتلال، أن النساء يَلِدن في ظروف استثنائية وغير طبيعية، فقد يأتي "الطلق" لإحداهن، وتبدأ عملية الإنجاب أثناء بدء اقتحام المكان وإعلان منع التجول فيه، فتنجب إما داخل سيارة النقل، أو على أحد الحواجز، أو ربما في ظل شجرة، هذا إذا كانت الوالدة محظوظة ولم تلقَ حتفَها، ويشيع تاريخ ميلاد كثيرين وينسب إلى هذه المناسبة أو تلك.

ولا بأس أن أذكر هنا، حادثة حول عاديات الاحتلال "الطبيعية" في استثنائيتها ولا طبيعيتها. ذات مرة صادفت زميلًا مسيحيًّا كان معي على مقاعد الجامعة (وهو اليوم أكاديمي مرموق)، ولم أره منذ سنين، وفاجأني عندما أخبرني باعتناقه الإسلام، وعندما سألته عن فقده لإحدى عينيه الزرقاوين الجميلتين (فهو من نسل أمّ أسكتلندية) أخبرني أنه أصيب برصاصة مطاطية بينما كان خارجًا من صلاة الجمعة في باحات المسجد الأقصى المبارك. وكان مما قاله معقبًا: إن الله أراد اختبار إيمانه!

هكذا يفقد الإنسان في بلادنا حيواتهم وأعضاءهم، وتهدر أملاكهم وأعمالهم وأوقاتهم، لأنك هناك تقبع تحت الاحتلال. الاحتلال الذي تختل معه الحياة. فالاحتلال باختصار هو تلك الدوّاسة الضخمة التي تفرمل حركة شعب بأكمله، تمنعه من التطور وتحجز طاقاته وتقهر تطلعّاته وتقتل طموحاته، والأخطر أنها تفسد عليه حياته ومعيشته.

ترتبط بالاحتلال أمراض وأعراض وهجنة وتشوهات وفوضى نمو، لكن عندما يصبح هذا الاحتلال مزمنًا كما هو عليه حالنا في فلسطين، ويصبح فعله وتأثيره متصاعدًا يضرب كل عصب من أعصاب الشعب أفرادًا وجماعات، فإن عوامل التراكم التي تفعل فعلها تأخذ متوالياتها بالضغط، ذلك الضغط الذي يشبه حال المتكرّش الممتلئ بطنه بأصناف شتى من الأطعمة القاعدية والحامضية الثخينة التي يثير اجتماعها في الجسم شتى أصناف الضيق والإعياء وخروج الغازات من كل منافذ الجسم بما فيها فتحات الرأس، وفي مثل هذه الحالة تطوّح أعراض التخمة صداعًا ودورانًا ودوخانًا وضوجانًا، لتصل بالمصدور بها أعتاب النفث "فلا بد للمصدور أن ينفث"!

فنحن المتخمون بهذا الاحتلال وصلت تخمتنا حدود اكتمالها لمرة جديدة أخرى، فلطالما فاض بنا الإناء، وأخرجنا ما في جعبتنا من أحماض ولهيب وغضب، في ثورات وانتفاضات سابقة.

لقد جاءت الصور المثيرة والصادمة التي صاحبت مقتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة، سواء عند اغتيالها أو في إفساد حزن عائلتها أو في الانقضاض على موكب تشييعها ليعطي فكرة للبعيدين – الذين قربتهم الحادثة – عن حجم تخمتنا ومحنتنا ولا طبيعيتنا في ظل هذا الاحتلال المتطاول، فما حصل لشيرين يحدث يوميًّا وبما هو أنكى وأبشع، ولكن ربما كان لمقتل صحافية صاحبة حضور متشابك مع جمهورها، على مدى ربع قرن أثر الصدمة لكثيرين في هذا العالم، أما عن الشهداء أشبهاها من غير المشهورين فإن الصدمة تطال محيطهم وبيئتهم. وها هي تتراكم صدماتنا التي تدق أبواب انفقائها الوشيك، فكل الإرهاصات تؤشر إلى لحظة النهاية، نهاية هذا العذاب وهذا الفساد وهذا الظلم وهذا الجور والعدوان.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتّابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأى المركز.