محمود مصلح.. أحد كتاب نصوصنا الفكرية والسياسية والأدبية الأولى
رأي
محمود مصلح.. أحد كتاب نصوصنا الفكرية والسياسية والأدبية الأولى
خلدون محمد
بدأ الاهتمام بالكتابة في موضوع "الحركة الإسلامية الفلسطينية" – ومن خارجها في الغالب – منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، وازدهر كثيرًا بعد اندلاع الانتفاضة الأولى (1987)، وتوسعت معالجاته وتناولاته لاحقًا، ولكن عند التأريخ للحركة الإسلامية، كان يغيب تسجيل وقائع أو قضايا أو شؤون طالما غلب عليها طابع السرية، بسبب طبيعة ظروف العمل الذي صبغ النشاط التنظيمي الفلسطيني إجمالًا. ومن جملة ذلك الأدوار التي لعبتها بعض الشخصيات في هذه المرحلة أو تلك.
كان الراحل الأستاذ محمود مصلح رحمه الله، من تلك النواة الطليعية الإسلامية الأولى التي شاركت ليس فقط في صياغة أشكال الظهور السياسي والنقابي والاجتماعي للإسلاميين، بل وإنما في كتابة أدبياتهم وبياناتهم الأولى، التي على هديها تطور مسار خطاب الإسلاميين الفلسطينيين.
الأستاذ محمود مصلح هو لاجئ فلسطيني، من مواليد قرية "خبّيزة" الكرملية. لجأت عائلته الممتدة بعد تهجيرها إلى أم الفحم، لكن أسرته الصغيرة تنقلت في السكن في عدة مدن في منطقة رام الله. وأثناء وجوده في قرية ترمسعيّا في ستينيات القرن الماضي جمعته علاقة صداقة فكرية وتنظيمية مع عدد من أساتذة مدارس اللاجئين، ومقيمين؛ كانوا انتموا -في غالبهم- في بواكير شبابهم إلى حزب البعث.
اهتمت هذه المجموعة بإحياء التراث والفلكلور الفلسطيني منذ بداياتها، وربما هي الأولى من نوعها على الصعيد الفلسطيني مبكرًا في قضايا البلدانيات والفلكلور والتراث الشعبي، وقد اتخذت من "جمعية إنعاش الأسرة" في مدينة البيرة مركز انطلاق لها عندما تأسس فيها مركز للتراث الشعبي الفلسطيني، ترأسه أحد أفراد هذه المجموعة، وهو المرحوم الأستاذ عبد العزيز أبو هدبا، وكان معه الأساتذة عمر حمدان، وأبو العبد القطّاوي، ومحمود مصلح، ود. ناجي عبد الجبار، ود. تيسير جبارة، والتحق بهم لاحقًا د. شريف كناعنة (الذي لا يزال يحرر مجلة "التراث والمجتمع" الصادرة عن نفس المركز والجمعية). ويعود لهذه المجموعة الفضل قي إصدار أول كتاب حديث في "البلدانيات" تناول قرية "ترمسعيّا" التي كانوا يسكنونها، والذي أصدره مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1971.
الأستاذ محمود مصلح كان شخصًا متعدد المواهب. فبالإضافة إلى كونه مدرسًا للتربية الرياضية، اشتغل في الإشراف على تدريب بعض فرق الأندية الرياضية وتنظيم العديد من المخيمات الصيفية. كما أنه كان شاعرًا موهوبًا، وله أكثر من ديوان شعري. وفي الانتفاضة الأولى كتب ديوانًا بالمحكيّة الفلسطينية الدارجة على أوزان غالب القصائد الشعبية المغنَّاة. وعمل أيضًا في تدريس اللغتين العربية والإنجليزية. كما أشرف لاحقًا على إدارة العديد من المؤسسات التعليمية والاجتماعية، بالإضافة إلى براعته في تدبيج المقالات، وتحرير النشرات، والمجلات، والصفحات.
في السبعينيات (عصر الصحوة الإسلامية) انضم الأستاذ محمود مصلح إلى صفوف الحركة الإسلامية وآخرون من أفراد المجموعة السابقة. وكانت جامعة بيرزيت قد فتحت أبوابها للتعليم الجامعي، فالتحق بها الأستاذ محمود لدراسة اللغة العربية بالإضافة إلى عمله في التدريس. وعندما تأسس أول جسم طلابي إسلامي عام 1979 وكان يحمل اسم "كتلة العمل الطلابي الموحّد" الذي سيصبح في العام التالي يحمل الاسم الصريح "الكتلة الإسلامية" كان الأستاذ محمود أحد مؤسسيه وكاتبي نصوصه الأولى. كانت بيرزيت يومها ساحة تعج بالفكر الماركسي بمختلف مدارسه وتياراته ومشاربه، وبلغ به الأمر آنذاك أنه كان يعدّ بمثابة وجه العملة الثاني "للوطنية الفلسطينية" ولا محل لغير معتنقيه في أنديتها ومنظماتها! من هنا تميّز الصراع الفكري والحضاري على أرض جامعة بيرزيت منذ أيامه الأولى، وأخذ صيغة صراع؛ أحد طرفيه من يرى نفسه متفوقًا معنويًّا، وأن معسكره الذي ينتمي إليه يسيطر على الكرة الأرضية، وأن فلسطين هذه لن تستغرق مع القوى الثورية العالمية الجامعة التي يسندها الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، أقل من "غلوة" لينطلق بعدها المارد في تحقيق مهماته الجليلة في تحقيق الاشتراكية سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. وكل هذه المعنويات الوطنية والثورية المدججة، كانت في مواجهة فتية في العقد الثاني من أعمارهم، فقيري التجربة، وليس لهم معسكر يستندون إليه، انحازوا إلى كل ما هو أصيل ونفروا من كل ما هو غريب ومستورد، حتى لو كان اسمه ثورة، اشتراكية، حداثة لا دينية... إلخ، وأخذوا يعلنون انتماءهم الصريح للإسلام وللفكرة الإسلامية، ويرفعون المصاحف في أيام الدعاية الانتخابية، وبدأوا أيضًا ينتجون شعاراتهم التي كان أهمها في جامعة بيرزيت: "حقّ، قوّة، حريّة: كتلة كتلة إسلامية".
في هذا الجو الفكري العاصف كان الأستاذ محمود مصلح هناك يساهم في صياغة متن النص الأول، فمنذ البدايات وقعت مسؤولية صياغة العديد من الشعارات والبيانات السياسية والنقابية على عاتقه. فهو من كان يقوم بأعباء صياغة المادة الانتخابية وطباعتها وتدبيجها (لذلك كانت لديه في بيته طابعة قديمة لهذا الغرض) ثم كتابة تلك البيانات التي كانت تغطي المناسبات الوطنية المختلفة. وبعد تخرجه من الجامعة، كان من مهمته الإشراف على عمل وأداء الكتلة الإسلامية في الجامعة، ذاك الأداء الذي تميز مذّاك وحتى يومنا هذا بالمتانة والجديّة والانضباط والروح الحضارية الراقية.
في هذه المرحلة من سنوات مطلع الثمانينيات أشرف الأستاذ محمود على إصدار العديد من المجلات الموسمية والنشرات التعريفية، التي كان منها مجلة "الله أكبر"، ومجلة "الصحوة"، كما كانت له مساهماته ولمساته على أعداد مجلة "المنطلق" التي كانت تصدرها الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح.
وفي أواسط الثمانينيات، كان الأستاذ محمود يحرر البيانات والأدبيات الصادرة، ليس فقط باسم الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، بل وأيضًا تلك الصادرة عن إطار تجمّع الكتل الإسلامية في جامعة بيرزيت الذي كان له نشاط سنوي مركزي في المسجد الأقصى المبارك في ذكرى الإسراء والمعراج من كل سنة، كما كان له نشاط تعبوي وتنظيمي وتثقيفي وحركي يمتد لأسبوع في العطلة الصيفية أو البينية بين الفصول، يتم عقده على أرض الجامعة الإسلامية في قطاع غزة.
وفي تلك المرحلة المبكرة كتب الأستاذ محمود مصلح العديد من البيانات السياسية العامة التي كانت تصدرها الحركة الإسلامية بمسميات مختلفة كان منها مثلًا "التيار الإسلامي في الأرض المحتلة" أو "المرابطون على أرض الإسراء والمعراج" أو "الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة".
وفي العديد من المناسبات الانتخابية اعتمد ممثلو الكتلة الإسلامية في دعايتهم الانتخابية على قصائده وأشعاره المؤثرة التي كانت تثير الحماس وتعرّي زيف الواقع وتهجو الانحراف.
كل ذلك جرى في مرحلة ما قبل انتفاضة 1987، أما عندما اندلعت الانتفاضة وشهدت التطور الأهم بالنسبة للحضور الوطني للإسلاميين بتأسيسهم لحركة المقاومة الإسلامية – حماس، فقد لعب الأستاذ محمود مصلح دورًا مع آخرين في إجراء المراجعات والتنقيحات اللازمة على بعض البيانات المتسلسلة للحركة وأدبياتها المختلفة. وبين عامي 1990-1991، يتولى دورًا قياديًّا مركزيًّا في إدارة شؤون حركة المقاومة الإسلامية – حماس في الضفة الغربية، وقد اضطلع بدور في منطقة وسط الضفة الغربية، وأشرف على صياغة العديد من بيانات الحركة وأدبياتها. وعندما شن الاحتلال حملة اعتقالاته الشاملة في شتاء 1991، كان الأستاذ محمود من ضمن المجموعة القيادية التي اعتقلت ليمضي في السجن بضع سنين.
وبعد مجيء السلطة عمل الأستاذ محمود على إدارة بعض المؤسسات والجمعيات الإسلامية قبل أن يتمّ اعتقاله لاحقًا بعد عام 2007.
وفي عام 2006 كان الأستاذ محمود أحد المرشحين على قائمة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس لانتخابات المجلس التشريعي في منطقة رام الله والتي فازت بأكملها، لكن لم يلبث الأستاذ محمود أن دخل السجن مرة أخرى مع عشرات من أعضاء المجلس التشريعي وقيادات حركة حماس الأخرى، وذلك بعد عملية أسر الجندي جلعاد شاليط في حزيران 2006.
رحم الله الأستاذ محمود مصلح رحمةً واسعة، فقد ترك لنا تراثًا فكريًّا وسياسيًّا وأدبيًّا وإداريًّا يُعدّ في كثير من جوانبه عملًا تأسيسيًّا بكرًا وجديدًا. ليجزيه الله عنا خير الجزاء.