مراجعة كتاب "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت"

عوني فارس
14-02-2021
مراجعة كتاب

"النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت"

عوني فارس

باحث في التاريخ

المؤلف: شفيق الغبرا

مكان النشر: الدوحة

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

عدد الصفحات: 342

تاريخ النشر: 2018

النكبة ونشوء الشتات

صدر الكتاب لمؤلفه شفيق الغبرا، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وهو في الأصل أطروحة دكتوراة للمؤلف، ظهرت في كتاب بالإنجليزية عام 1987.

اعتمد الغبرا في إعداد المادة الأساسية للكتاب على مائة وعشر مقابلاتٍ مفتوحة أجراها مع أفرادٍ من الجالية الفلسطينية في الكويت في الفترة ما بين 1984-1985، وقراءات معمقة لأدبيات نظرية حول مفاهيم العائلة والهجرة والشبكات الفعلية والمُوسَّعة وحالة اللادولة، وأخرى تناولت الشتات الفلسطيني، ودَرَسَتْ قدرة الفلسطينيين على مواجهة آثار النكبة واستعادة هويتهم الاجتماعية والثقافية والوطنية، وقد رفد نصه بالعربية بفصلين غطى فيهما محطاتٍ إضافية في سيرة الجالية الفلسطينية في الكويت، خصوصًا مرحلة اجتياح العراق للكويت وما بعدها وصولًا إلى يومنا هذا، وأجرى مقابلات جديدة لهذا الغرض في تسعينيات القرن الماضي وعام 2016.

تكمن أهمية الكتاب في حاجة الساحة الأكاديمية والبحثية للمزيد من الدراسات حول الجاليات الفلسطينية في الشتات، خُصوصًا تلك التي كان لها دورٌ متميزٌ في محاولات الفلسطينيين إعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وبناء مؤسساته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بعد نكبة عام 1948، مثل الجالية الفلسطينية في الكويت، وهو مهم لأنَّه نتاج جهدِ باحثٍ متخصصٍ في موضوعه، اعتمد في إعداده على منهجية علمية وأدواتٍ بحثية معتبرة ومصادر أولية وثانوية رصينة، وتمكَّن من نسج متن محكم، وتقديم خلاصاتٍ مدعومة بأدلة قوية.

تركَّز الجهد الأساس للكتاب على اكتشاف الإستراتيجيات والآليات التي اعتمدها الفلسطينيون في شتاتهم لمواجهة تداعيات نكبة عام 1948، وإعادة تنظيم أنفسهم وبلورة هويتهم من جديد، وخَلُص المؤلف إلى أن العائلة هي مؤسسة الشتات الأولى التي كان لها الدور المحوري في استعادة الفلسطينيين نسيجهم الاجتماعي وقوتهم الاقتصادية ونظرتهم لأنفسهم باعتبارهم شعبًا اقتلع من أرضه ويسعى للعودة اليها.

تناول الفصل الأول مصادر الكتاب، وقدَّم عرضًا موجزًا لطبيعة المجتمع الفلسطيني قبل عام 1948، وناقش الأدبيات النظرية، مركزًا على مفهوم العائلة كونها وحدة اقتصادية اجتماعية، والهجرة من الريف إلى المدينة، وتكتيكات المهجرين في أحوال مشابهة لما جرى للفلسطينيين، وبناء الشبكات الاجتماعية والتحليل القائم على تلك الشبكات وتأثيرها، وتطرق إلى القضية الفلسطينية وأهميتها، ودوَّن عددًا من الفرضيات الخاصة بالكتاب.

ركَّز الفصل الثاني على أحداث النكبة ونتائجها، وخَصَّصَ المؤلف الفصلين الثالث والرابع لدراسة النخبة الفلسطينية المهجرة، وكَشَفَ بعض العوامل التي شجعتها على الوصول إلى الكويت دون غيرها من البلدان، وأعطى تفصيلاتٍ عن نجاحها في تأمين حياة أفضل لشبكات عائلاتها الفعلية والموسعة، وسَرَدَ نماذج لمساهماتِ عناصرها في الحركة الوطنية الفلسطينية.

اهتم الفصل الخامس بدراسة أنماط البقاء التي استخدمها الريفيون الفلسطينيون في الكويت، وتضمن شرحًا عن خط التهريب الذي استخدموه للوصول إليها بداية خمسينيات القرن الماضي، ونجاحهم في التأسيس لمجتمع قروي صامد وجديد في الشتات يتمحور حول الأسرة والقرية.

توسع في الفصل السادس في قراءة الشبكة العائلية في شكليها الفعلي والموسع، وفصَّل في وظائف العائلة الفلسطينية في الشتات وحلَّلها، وسلط الضوء على دورها في إعادة بناء النسيج الاجتماعي الفلسطيني وتعزيز حضور الفلسطينيين الاقتصادي ومشاركتهم في الهم الوطني، وأبرز الميزات العابرة للأوطان التي تختص بها الشبكات العائلية الفلسطينية، كما في عائلات قمر المقدسية وسمور الياسينية وأبو الجبين اليافاوية.

رَصَدَ الفصل السابع الآليات الأساسية غير الرسمية التي مكَّنَتْ من بقاء القرى والأحياء الفلسطينية القديمة في الشتات، وبحث الفصل الثامن في استراتيجيات التأقلم الاقتصادية والاجتماعية، وما تطلَّبه من توسيع العائلة لوظائفها، لتشمل مجابهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الشتات من خلال تأسيس صناديق القرى والبلدات ومراكز ودواوين وجمعيات للعائلات منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، والمساهمة في دعم صمود الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال وسياساته عبر المشاركة في إنشاء المزيد من المؤسسات التعليمية والصحية في الأرض المحتلة.

تناول الفصل التاسع اجتياح العراق للكويت وتداعياته الكارثية على الجالية الفلسطينية، وناقش بجرأة العلاقة التي نشأت بين الشعبين الفلسطيني والكويتي في تلك المرحلة، وكيف كانت الأزمة ونتائجها بداية النهاية لوجود الجالية النوعي في الكويت، وأجاب الفصل العاشر عن السؤال المتعلق بما حلّ بالجالية الفلسطينية في الكويت بعد خروج القوات العراقية منها، مستعرضًا جانبًا من معاناتها، والتكتيكات التي استخدمتها لمواجهة سلسلة المآزق التي تعرضت لها والتي أفضت في نهاية المطاف إلى خسرانها مكانتها السابقة.




نخب وفلاحين.. دور الجالية الفلسطينية في الكويت

لعل من أهم إسهامات هذا الكتاب تناول دور النخبة الفلسطينية في تأسيس الجالية الفلسطينية في الكويت ورسم مسارها وتحديد خياراتها طوال عقود، وربط كل ذلك باستراتيجيات الفلسطينيين في البقاء والتأقلم وقدرتهم على استعادة هويتهم الاجتماعية والثقافية وإبراز تطلعاتهم الوطنية.

قدَّم الغبرا تصورًا واضحًا لطبيعة النخبة الفلسطينية في الكويت، عبر سرد جانبٍ من تجارب عددٍ من شخوصها الرئيسيين، وتناول أصولهم المناطقية وخلفياتهم المهنية وتطلعاتها المستقبلية، ودورهم الريادي في التأسيس للبنى التحتية للكويت الحديثة، وقدرتهم على التعاطي مع التحولات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية في الكويت، ومساهمتهم في الحركة الوطنية الفلسطينية، كما في تجربة أشرف لطفي (يافا) مدير مكتب أمير الكويت، وهاني القدومي (يافا) مؤسس أول دائرة حديثة للإقامة وجوازات السفر، ومحمد الغصين (الرملة) مدير أول محطة إذاعة حديثة، وخالد الحسن (حيفا) أمين عام في المجلس البلدي في بلدية الكويت، وسابا جورج شبر (القدس) المشرف الرئيس على المخطط المعماري لدولة الكويت الحديثة، وخليل شحيبر مؤسس الشرطة الكويتية، ومصطفى الشوا (غزة) مدير الشؤون المالية في وزارة الدفاع، وعبد المحسن القطان ( يافا) مدير عام في وزارة الكهرباء، ودرويش المقدادي (القدس) مدير للتعليم في الكويت، وسامي بشارة مدير المستشفى الأميري في الكويت.

أمَّا سَرْدُ المؤلف لتجربة الفلاحين الفلسطينيين في الكويت فكان مشوقًا، فقد استعرض الظروف التي دفعتهم للهجرة، ثمَّ بِدْء وصولهم إليها عام 1951، عبر خط تهريب طويل ومحفوف بالمخاطر، كما ركَّز على استراتيجيات البقاء التي اعتمدوها، ودور الروابط العائلية في التأقلم مع الواقع الجديد، وتحولهم من أناس لا يملكون الخبرة ولا التعليم إلى عمال ماهرين أو متوسطي المهارة.

الجالية الفلسطينية في الكويت عام 1990 وما بعده

أظهر المؤلف شجاعةً في تناوله لموضوع الجالية الفلسطينية واجتياح العراق للكويت وما بعده، وقدَّم تصوره لما جرى خلال عامي (1990-1991) مستندًا لشهاداتٍ لفلسطينيين وكويتيين عايشوا تلك المرحلة، بالإضافة إلى تقارير لمؤسساتٍ حقوقيةٍ كويتيةٍ وغير كويتيةٍ، وأحاديث لمسؤولين رسميين من الطرفين الفلسطيني والكويتي، وخَلُص إلى بعض النتائج المغايرة لما تناقلته وسائل الإعلام وبعض الأدبيات في حينه.

من تلك النتائج: أن ارتباك الجالية الفلسطينية بشأن الموقف من الاجتياح العراقي للكويت لم يدعم طويلًا، إذ ما لبثت أن حسمت أمرها بالوقوف ضده، وأنَّه رغم النتائج الكارثية للأزمة إلا أن عدد القتلى والمفقودين الفلسطينيين لم يتجاوز الـ16 قتيلًا و33 مفقودًا، وأنَّ وسائل إعلامٍ خليجية ومصرية ساهمت أثناء الأزمة في شيطنة الفلسطينيين في الكويت لأسبابٍ سياسية تتعلق بمحاولات إضعاف الموقف الفلسطيني ودفعه باتجاه قبول الدخول في مسار التسوية الذي يُعد له بعد انتهاء الازمة، وأن أطرافًا فلسطينية وكويتية خطَّت مسارًا طويلًا وشاقًا بهدف إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 1990، وأن العلاقات الكويتية – الفلسطينية بقيت باردة حتى زيارة فيصل الحسيني للكويت عام 2001، ثمَّ تصاعد التحركات الشعبية الكويتية المناصرة للقضية الفلسطينية مثل مشاركة ست عشرة شخصية كويتية في قافلة أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة عام 2010، تلتها جهود رسمية تكللت بافتتاح سفارة لفلسطين عام 2013، واستقبال رسمي لخالد مشعل عام 2015، والاعتراف بجواز السفر الفلسطيني عام 2016.



ملاحظات عامة

لا شك بأنَّ كتاب الغبرا نص متين وممتع، لكنَّ ذلك لا يمنع من تسجيل عدد من الملاحظات أراها ضرورية. تتعلق الملاحظة الأولى بقائمة المصادر والمراجع، إذ فات المؤلف الاطلاع على بعض المراجع المفيدة والتي تحوي تفاصيل مهمة خصوصًا فيما يتعلق بما جرى إبان سيطرة العراق على الكويت وفي مرحلة لاحقة لخروج القوات العراقية منها، منها دراسة آن موسلي ليش Ann Mosely Lesch "الفلسطينيون في الكويت"، Palestinians in Kuwait، المنشورة في مجلة  Journal Of Palestine Studies  في عددها 80 عام 1991.

أما الملاحظات الأخرى فتتعلق بمتن الكتاب، إذ كان على الغبرا تسليط المزيد من الضوء على بدايات  تبلور العلاقة بين الكويت وفلسطين، خصوصًا فيما يتعلق بموقف الكويت من القضية الفلسطينية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وذلك لإظهار أن العلاقة بين الطرفين لم تقم على تبادل المنفعة فقط على قاعدة (كوادر فلسطينية مؤهلة – بلد في طور النمو وبحاجة لهذه الكوادر)، وإنما لعبت القضية الفلسطينية دورًا محوريًا في رسم معالم هذه العلاقة منذ البداية.

الملاحظة الأخرى لها علاقة  بسيطرة نزعة رومانسية على تناول الغبرا  لمسيرة النخبة الفلسطينية في الكويت كما في الفصلين الثالث والرابع، فقد بدت نخبةً مثاليةً، جميع أفرادها عصاميون، ومتفانون في أعمالهم، ومستعدون للتضحية لخدمة شعبهم، وخياراتهم صحيحة، رغم أن ما مرَّت به تجربتها من منعطفات، خصوصًا بعد ما شهدته الكويت من تحولات اقتصادية وسياسية وأمنية، يدفع المتابع للقول بأنَّها لا تختلف عن باقي النخب في المجتمعات البشرية، فقد كانت خاضعة في سيرورتها لعوامل عدة يأتي في مقدمتها مصالحها، وتعود هذه النزعة، برأيي، إلى انتماء المؤلف لهذه النخبة، فهو من مواليد الكويت ووالده الطبيب الفلسطيني ناظم الغبرا الذي عمل في الكويت منذ عام 1952، كما أنَّ الإنجازات الكبرى التي حققها بعض أفراد تلك النخبة ساحرة وتُخفي عن الناظر ما اعترها من مظاهر ضعف.

وليت الغبرا أفرد مساحة أوسع لدراسة دور الجالية الفلسطينية في الكويت في الحركة الوطنية، خصوصًا وأن المعطيات البحثية الجديدة حول الموضوع تشير إلى دورٍ مركزيٍ للفلسطينيين في الكويت، ليس فقط فيما يتعلق بنشوء حركة فتح وتطورها، وإنما أيضًا في تأسيس حركة حماس، ولا ننسى أن عددًا كبيرًا من قادة الأخيرة محسوبون على الجالية الفلسطينية في الكويت مثل خالد مشعل وعمر الأشقر وسلمان الحمد وسامي خاطر ومحمد نزال وجمال عيسى وغيرهم، وليته وهو يكشف عن الدور المميز للنخبة الفلسطينية في الكويت في مسار الحركة الوطنية، اهتم بدور الريفيين الفلسطينيين أيضًا، خصوصًا وأنَّهم رفدوا الحركة الوطنية بالكوادر الميدانية والسياسية التي لعبت دورًا مهمًا في المراحل المختلفة التي مرت بها القضية الفلسطينية، أما فيما يتعلق باجتياح العراق للكويت وموقف الفلسطينيين منه، فرغم أنَّه عرَّج على موقف فصائل منظمة التحرير من الأزمة ودورها فيها، الا أنَّه تجاهل موقف حركة حماس ودورها، رغم أنَّها فصيل فلسطيني كان فاعلًا في تلك الفترة، وصدَّر موقفًا أثبتت الأحداث اللاحقة صوابيته وتوازنه.

أما الملاحظة الأخيرة فمرتبطة باستخدام المؤلف بعض المصطلحات والتشبيهات المتأثرة بالخطاب والثقافة الغربيين، مثل الإشارة إلى ما أسماه بـ "الشتات اليهودي" حين الحديث عن الشتات الفلسطيني، أو في حديثه عن رؤى العودة وتشبيهه لحنين الفلسطينيين لبلداتهم وقراهم وانعكاساته على تجاربهم بالـ " الصهاينة القدامى"، رغم أنَّ مصطلح " الشتات اليهودي" محل نظر تاريخي، ومصطلح "الصهاينة" يلقي بظلال ثقيلة على القارئ الفلسطيني خاصة والعربي بشكل عام.







خاتمة

صدر الكتاب بعد عقود طويلة على تأسيس الجالية الفلسطينية في الكويت، وبعد أن رحل عن دنيانا الفانية أغلب مؤسسيها الأوائل، وقد نجح مؤلفه في تقديم صورة واضحة لنشأة الجالية ودورها التاريخي في استعادة الفلسطينيين لنسيجهم الاجتماعي وهويتهم الثقافية والوطنية ومساهمتها في مسيرة التحديث والنهضة في الكويت، وفي تسليط الضوء على العائلة باعتبارها العامل المؤثر الأكبر في مسار الجالية.

ولا نبالغ إن قلنا بأن الكتاب يشكل مرجعًا أكاديميًا مهمًا لدارسي الشتات الفلسطيني، وهو عدة معرفية ضرورية لكل من ينادي بضرورة إعادة الاعتبار للشتات ولدوره في القضية الفلسطينية.