مراجعة كتاب: "مدينة الخليل عبر العصور: دراسة توثيقية تحليلية لتاريخ مدينة الخليل السياسي والحضاري والإداري من جذورها الأولى حتى نهاية الحكم العثماني فيها".
فريق المركز
وعوني فارس
07-01-2021
مراجعة كتاب: "مدينة الخليل عبر العصور: دراسة توثيقية تحليلية لتاريخ مدينة الخليل السياسي والحضاري والإداري من جذورها الأولى حتى نهاية الحكم العثماني فيها".
عوني فارس
المؤلف: جواد بحر النتشة.
مكان النشر: عمان- الأردن.
الناشر: دار الفتح للدراسات والنشر.
عدد الصفحات: 688 صفحة.
تاريخ النشر: 2020.
صدر حديثًا كتاب "مدينة خليل الرحمن عبر العصور.. دراسة توثيقية تحليلية لتاريخ مدينة الخليل السياسي والحضاري والإداري من جذورها الأولى حتى نهاية الحكم العثماني فيها" لمؤلفه جواد بحر النتشة، والكتاب إضافة جديدة في سلسلة كتابات الفلسطينيين عن مدنهم، وهو الأول في تغطيته لهذه الحقبة التاريخية الطويلة من تاريخ مدينة الخليل، ومن الكتب النادرة التي أُفردت للتأريخ لواحدة من مدن الجزء المحتل من فلسطين عام 1967 بهذا الشمول والاتساع.
حوى الكتاب مقدمة وتمهيدًا وثلاثة أبواب وخاتمة. ضم الباب الأول ست مقدمات، عالج فيها مسائل نظرية ومنهجية، فناقش في الأولى مصادر تاريخ الخليل، وهي برأيه، أربعة: الوحي الرباني الصادق، التوراة، الآثار القديمة، الكتابات التاريخية والأدبية، وبيَّن موقفه منها وضوابط تعامله معها، وأثار في الثانية مسألة تعذر التعرف على تاريخ مستمر للخليل القديمة، خصوصًا وأن هنالك فجوات في تاريخ فلسطين القديم بشكلٍ عام، لشح المصادر، ولارتباط الكتابات المعتمدة على الآثار بالتوراة وبتأكيد مركزية الوجود اليهودي في فلسطين، وبيَّن في الثالثة موقع المدينة وحدودها ومساحتها وتضاريسها اعتمادًا على كتب الجغرافيين العرب والمسلمين وبعض الدراسات المعاصرة، ودوَّن في الرابعة أسماء مدينة الخليل واستعرض أصولها وما طرأ عليها من تغيرات، موضحًا أن اسم "قرية أربع" هو اسمها الأول وهو عربي كنعاني، وذكر في الخامسة جانبًا من سير ثمانية وخمسين من الأَعلام والرحالة ممن زاروا مدينة الخليل إبان عصورها الإسلامية المختلفة، وعالج في السادسة المدينة في عصور ما قبل التاريخ، وبيَّن أنَّها أخذت تظهر بشكل أوضح في العصر الحجري الوسيط (14000 ق.م- 8000 ق.م).
أمَّا الباب الثاني فشمل تاريخ الخليل منذ العصر البرونزي (3200-1200 ق.م) حتى الاحتلال الروماني، وقد افتتحه المؤلف بسوق الدلائل على كنعانية الخليل منشأً وحضارة، وذَكَرَ بدء الاستيطان البشري الأول في تل الرميدة في العصر البرونزي المبكر (3200-2000 ق.م)، وساق الحجج لإثبات قدوم إبراهيم عليه السلام إلى المدينة وعيشه فيها، معتمدًا على تفسيراتٍ لآيات قرآنية وأحاديث نبوية وإشارات دُوِّنت في وثائق مصرية قديمة، وخَلُص إلى أن المدينة نالت بذلك قداسة ميزتها عن غيرها، وناقش الوجود اليهودي في المدينة مبتدئًا بالحديث عن علاقة الخليل بداود وسليمان عليهما السلام، وصولًا إلى سرده لقصة تهويدها القسري على يد اليهود المكابيين، كما أنَّه تحدث عن حالها إبان الغزوات الفرعونية والبابلية والأشورية ثمَّ الاحتلال الفارسي واليوناني والروماني مع إعطاء هامشٍ أكبر للحديث عن فترة الملك هيرودوس.
وركَّز الباب الثالث على الخليل في العصور الإسلامية، فقد لاحظ أن المدينة كانت خاملة إبان الفتح الإسلامي، ودلل على ذلك بإغفال كتب التاريخ لحادثة فتحها، ثمَّ أجرى مرافعة تاريخية رجَّح فيها أن عمرو بن العاص هو فاتح المدينة، وأنَّ والي القدس علقة بن مجزِّر من أوائل المسؤولين عنها بعد الفتح، وأنَّها ظلت تابعة إداريًا إما لبيت المقدس أو لبيت جبرين، ثمَّ ذكر سقوطها بيد الفرنج وتدميرهم لبيوتها، وعدَّد حكامها من الفرنج، وخصَّ جزءًا من حديثه لرينو دي شاتيو المعروف بأرناط، وتتبع أحداث فتحها على يد صلاح الدين، وما أحدثه فيها من تعمير، واستعرض الفترة المملوكية، حيث أصبحت المدينة تابعة إداريًا لنيابة دمشق، ثم نيابة غزة ثم نيابة القدس، وبيَّن تصاعد حضورها في محيطها، بزيادة عمرانها، وازدهار اقتصادها، واحتفائها بنشاط علمي ملحوظ تمثَّل بافتتاح المدارس وزيارة العلماء للمدينة ومكوثهم فيها، حتى أنَّ المؤلف وصف الخليل المملوكية بالقول: "هي التي أطلت على الوجود مدينة ظاهرة ذات حركة ظاهرة، لتستمر في ظهورها عبر العصور، وإلى يومنا هذا"، أمَّا اثناء المرحلة العثمانية فقد كانت المدينة تابعة للقدس، وشكلت عام 1840 مركزًا إداريًا لناحية جبل الخليل، وأصبح لديها مجلس بلدي بين عامي (1974-1882).
في المنهجية وبعض الموضوعات... ملاحظات عامة
أفرد المؤلف جزءًا من كتابه لمناقشة بعض المسائل التاريخية المهمة، وبعضها لها دلالات سياسية وتستدعى بكثافة في ظل الوضع الميداني الساخن داخل المدينة منذ احتلالها عام 1967، رغم أنَّها تعود لقرون طويلة، من قبيل مناقشته المتميزة للوجود اليهودي القديم في الخليل، وما ارتبط به من موضوعات، وقد جاء ذلك تحت أكثر من عنوان مثل: هل كانت الخليل عاصمة داود الأولى؟ والخليل ومملكة يهوذا، والوجود اليهودي في الخليل قبيل الفتح الإسلامي، ونظرًا لحساسية هذا الموضوع وتداعياته على حاضر المدينة ومستقبلها، فقد كان من الأفضل تسليط المزيد من الضوء عليه واستكمال الفصل في معالجة المغالطات الصهيونية.
بدا تحلي الكاتب بروح الموضوعية والأمانة العلمية ظاهرًا في أكثر من موضع في الكتاب، فعلى الرغم من حالة الاستقطاب الناجمة عن ثورات الربيع العربي، وخطابات الضخّ الطائفي، فقد أثبت في سِفْره جهاد الفاطميين ضد الفرنجة ونقل عن عدة مصادر حوادث الهجمات الفاطمية ضد الفرنجة بعد أقل من أربع سنوات على سقوط القدس، كما أنَّه انتقد تضخيم بعض المؤرخين للجهود العلمية في الخليل إبان الحقبة المملوكية، في موقفٍ نمَّ عن ابتعادٍ عن روح المناطقية الذميمة، إذ كان بإمكانه وهو الخليلي المحب لمدينته، أن يكتفيَ بسرد تلك الروايات المضخمة دون عرضها على النقد التاريخي، في المقابل نرى تأثره بالصراع في فلسطين وما ارتبط به من مقولات أتت في سياق تأكيد أحقية العرب بفلسطين مثل إشارته إلى أنَّ أهل الخليل في العصر الحديث هم جزء من الشعب الكنعاني وأن الذي زال من فلسطين والخليل هو سيطرة الكنعانيين وليس وجودهم، وهي إشارة مهمة لكنها بحاجة إلى مزيد من الدراسة والفحص، وهنالك مثال آخر أظهر فيه تأثُّرًا ببعض القناعات السياسية مثل وصفه لمحمد علي باشا بأنَّه رجل بريطانيا، وهي معلومة يقتضي العمل التاريخي الجاد عدم التسليم بها إلا بعد بحثٍ دقيقٍ أو رجوعٍ إلى مصادر علمية رصينة تؤكد صحتها.
ومسألة أخرى لها علاقة بالمصطلحات ذات البعد الإشكالي التي تملأ الكتابات حول تاريخ فلسطين القديم، إذ يلجأ بعض الباحثين لاستخدامها لوصف بعض الظواهر والأحداث والأماكن، دون الوقوف على معانيها ودلالاتها، وقد وقع المؤلف في مثل هذا أحيانًا، فكان مرةً يصف سلوك اليهود المكابين تجاه الرومان بالثورة ومرة بالتمرد، والأَولى الفصل في المسألة بعد تحقيق وتدقيق لما لهاتين الكلمتين (الثورة والتمرد) من دلالات مختلفة، واستخدم مصطلح الغزو الصليبي لوصف الحملات العسكرية الأوروبية على فلسطين رغم أن الأَولى وصفها بالحملات الفرنجية أخذًا بعادة مؤرخينا المتقدمين، واستخدم مصطلح السامرة لتوصيف منطقة جغرافية معينة من فلسطين، رغم ما لهذا المصطلح من دلالات تعزز الرواية الصهيونية، فلو أنَّه استبدله بمصطلح آخر أو استخدمه بشرط وضعه بين هلالين لكان أجدى.
ملاحظة إضافية:
بقي أن أشير إلى ملاحظة أخيرة، تتعلق بمحاولة المؤلف سد الفجوات في تاريخ الخليل عبر الرجوع إلى تاريخ فلسطين بعموميته، على اعتبار أن ما حدث في فلسطين حدث في الخليل، وهو حلٌّ منطقي اعتمده عدد من المؤرخين سابقًا، لكنَّه ساهم في وقوع المؤلف في شَرَك التوسع دون حاجة، من قبيل توسعه في الحديث عن الكنعانيين وأصولهم وتطور حضارتهم وقصة هيرودوس وقسوته، والإطالة في تناول تاريخ الطولونيين والإخشيديين والزنكيين، وكان الأفضل في مثل هذه الحالات الاختصار في المتن ونقل التفاصيل إلى الهوامش.
وقفة مع مصادر الكتاب ومراجعه
استند المؤلف في سَرْده لتاريخ الخليل على ما دوَّنه المؤرخون والباحثون حول حركة الإمبراطوريات والدول والجماعات البشرية والملوك والأمراء والولاة وقادة الجيوش، وتداعياتها على فلسطين عامة والخليل بشكل خاص، وقد رجع إلى مائة وأربعة وتسعين مصدرًا ومرجعًا كلها مطبوعة وباللغة العربية، ولا يخفى جهد المؤلف في جمعها وقراءتها واختبارها وترجيح بعض ما ورد فيها من رواياتٍ وإسقاط بعضها الآخر، ومن اللافت أنه تجاهل بعض المصادر، رغم أنّها كان يمكن أن تثري موضوعه مثل سجلات المحاكم الشرعية، والأرشيف العثماني، والأدبيات الغربية باللغات الأجنبية، كما أنَّه ضيق استخدام بعض المصادر التي قد تحوي إشارات تاريخية حول الخليل مثل المدونة الفقهية وأشعار العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وكتب الأدب، وكان الأجدى عدم استخدام المؤلفات الوسيطة واستسهال النقل عن مصدرٍ نقل بدوره عن مصدرٍ آخر، في ظل وجود إمكانية للرجوع إلى المصدر الأول، خصوصًا وأن لكل قارئ عينًا ولكل باحث طريقة في فهم النصوص والاستفادة منها، ولربما استنتج القارئ جديدًا في نصٍ ما اعتاد الباحثون النَقَل عنه دون انتباه.
اعتبر المؤلف أن الوحي الرباني الصادق أحد مصادر التاريخ، وهو مفيدٌ خصوصًا في حالة شح المصادر، ووجود فجوات تاريخية بحاجة إلى إغلاق، كما في بعض المحطات التاريخية لمدينة الخليل، ورأى أنَّ هذا الوحي متمثلٌ أصدق تمثيل بالقرآن والسنة الصحيحة لذا لا حرج في استخدامهما، وقد فعل ذلك في كتابه وإن على نطاق ضيق، على أن هذا النهج قديم في الكتابات التاريخية الفلسطينية، فقد سبق النتشة في ذلك مؤرخون وجغرافيون من أمثال عارف العارف ومصطفى الدباغ وغيرهما، لكنَّ هذا الاستخدام تراجع في النصف الثاني من القرن العشرين تحت تأثير تبني المؤرخين والباحثين الموقف الأيديولوجي الرافض لمبدأ الغيب مصدرًا للمعرفة، أو انسجامًا مع التوجهات الفكرية للمؤسسات البحثية الغربية وموقفها من القرآن والسنة، أو محاولة للخلاص من هيمنة التوراة على الكتابات التاريخية القديمة عبر رفض استخدام كل ما هو مقدس مصدرًا للتأريخ ويأتي القرآن والسنة في جملة المقدس.
لقد نحى المؤلف منحى خاصًا في التعامل مع التوراة، خصوصًا وأنَّها ذكرت الخليل في أكثر من موضع، فلم يرفض استخدامها، رغم تأكيده على أنَّها ليست مصدرًا موثوقًا، لأنَّها، حسب قوله، ضاعت فترة طويلة من الزمن، وتُرجمت إلى اليونانية ثم تُرجمت مرة أخرى إلى العبرية، وهي تتضمن أحداثًا مخالفةً للحقائق الأثرية والوقائع التاريخية المثبتة، وقد أَخَذَ بالرأي القائل باستخدامها في الوقائع التي ثبتت في المصادر التاريخية الموثوقة من وثائق وآثار وغيرها، وهو رأي أخذ به أكثر من مؤرخ فلسطيني منهم إلياس شوفاني، وهو بهذا الموقف خالف من أخذوا منها دون حذر مثل عارف العارف ومصطفى الدباغ، أو رفضوا استخدامها على الإطلاق مثل أحمد الدبش وغيره.
خاتمة
هذا الكتاب هو الثامن للمؤلف، وقد أعدَّ أجزاءً منه أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال، وصدر في وقتٍ تتصاعد فيه معاناة مدينة الخليل من سياسات التهويد، وهذا يضفي عليه أبعادًا أخرى تتجاوز البحث الأكاديمي الصرف، وتعطي معنى خاصًا للكتابة التاريخية في فلسطين حيث تعتبر في جانبٍ منها آلية صمود وفعل مقاوم، تواجه رواية غريبة عن البلاد وتاريخها، أمَّا ما أشارت له القراءة أعلاه من ملاحظات في إطار النقد العلمي، فهي لا تلغي أهمية الكتاب ولا تمس كونه مساهمة بحثية تستحق الشكر والثناء.
لتحميل مراجعة الكتاب بصيغة pdf :
١مراجعة الكتاب
عوني فارس
المؤلف: جواد بحر النتشة.
مكان النشر: عمان- الأردن.
الناشر: دار الفتح للدراسات والنشر.
عدد الصفحات: 688 صفحة.
تاريخ النشر: 2020.
صدر حديثًا كتاب "مدينة خليل الرحمن عبر العصور.. دراسة توثيقية تحليلية لتاريخ مدينة الخليل السياسي والحضاري والإداري من جذورها الأولى حتى نهاية الحكم العثماني فيها" لمؤلفه جواد بحر النتشة، والكتاب إضافة جديدة في سلسلة كتابات الفلسطينيين عن مدنهم، وهو الأول في تغطيته لهذه الحقبة التاريخية الطويلة من تاريخ مدينة الخليل، ومن الكتب النادرة التي أُفردت للتأريخ لواحدة من مدن الجزء المحتل من فلسطين عام 1967 بهذا الشمول والاتساع.
حوى الكتاب مقدمة وتمهيدًا وثلاثة أبواب وخاتمة. ضم الباب الأول ست مقدمات، عالج فيها مسائل نظرية ومنهجية، فناقش في الأولى مصادر تاريخ الخليل، وهي برأيه، أربعة: الوحي الرباني الصادق، التوراة، الآثار القديمة، الكتابات التاريخية والأدبية، وبيَّن موقفه منها وضوابط تعامله معها، وأثار في الثانية مسألة تعذر التعرف على تاريخ مستمر للخليل القديمة، خصوصًا وأن هنالك فجوات في تاريخ فلسطين القديم بشكلٍ عام، لشح المصادر، ولارتباط الكتابات المعتمدة على الآثار بالتوراة وبتأكيد مركزية الوجود اليهودي في فلسطين، وبيَّن في الثالثة موقع المدينة وحدودها ومساحتها وتضاريسها اعتمادًا على كتب الجغرافيين العرب والمسلمين وبعض الدراسات المعاصرة، ودوَّن في الرابعة أسماء مدينة الخليل واستعرض أصولها وما طرأ عليها من تغيرات، موضحًا أن اسم "قرية أربع" هو اسمها الأول وهو عربي كنعاني، وذكر في الخامسة جانبًا من سير ثمانية وخمسين من الأَعلام والرحالة ممن زاروا مدينة الخليل إبان عصورها الإسلامية المختلفة، وعالج في السادسة المدينة في عصور ما قبل التاريخ، وبيَّن أنَّها أخذت تظهر بشكل أوضح في العصر الحجري الوسيط (14000 ق.م- 8000 ق.م).
أمَّا الباب الثاني فشمل تاريخ الخليل منذ العصر البرونزي (3200-1200 ق.م) حتى الاحتلال الروماني، وقد افتتحه المؤلف بسوق الدلائل على كنعانية الخليل منشأً وحضارة، وذَكَرَ بدء الاستيطان البشري الأول في تل الرميدة في العصر البرونزي المبكر (3200-2000 ق.م)، وساق الحجج لإثبات قدوم إبراهيم عليه السلام إلى المدينة وعيشه فيها، معتمدًا على تفسيراتٍ لآيات قرآنية وأحاديث نبوية وإشارات دُوِّنت في وثائق مصرية قديمة، وخَلُص إلى أن المدينة نالت بذلك قداسة ميزتها عن غيرها، وناقش الوجود اليهودي في المدينة مبتدئًا بالحديث عن علاقة الخليل بداود وسليمان عليهما السلام، وصولًا إلى سرده لقصة تهويدها القسري على يد اليهود المكابيين، كما أنَّه تحدث عن حالها إبان الغزوات الفرعونية والبابلية والأشورية ثمَّ الاحتلال الفارسي واليوناني والروماني مع إعطاء هامشٍ أكبر للحديث عن فترة الملك هيرودوس.
وركَّز الباب الثالث على الخليل في العصور الإسلامية، فقد لاحظ أن المدينة كانت خاملة إبان الفتح الإسلامي، ودلل على ذلك بإغفال كتب التاريخ لحادثة فتحها، ثمَّ أجرى مرافعة تاريخية رجَّح فيها أن عمرو بن العاص هو فاتح المدينة، وأنَّ والي القدس علقة بن مجزِّر من أوائل المسؤولين عنها بعد الفتح، وأنَّها ظلت تابعة إداريًا إما لبيت المقدس أو لبيت جبرين، ثمَّ ذكر سقوطها بيد الفرنج وتدميرهم لبيوتها، وعدَّد حكامها من الفرنج، وخصَّ جزءًا من حديثه لرينو دي شاتيو المعروف بأرناط، وتتبع أحداث فتحها على يد صلاح الدين، وما أحدثه فيها من تعمير، واستعرض الفترة المملوكية، حيث أصبحت المدينة تابعة إداريًا لنيابة دمشق، ثم نيابة غزة ثم نيابة القدس، وبيَّن تصاعد حضورها في محيطها، بزيادة عمرانها، وازدهار اقتصادها، واحتفائها بنشاط علمي ملحوظ تمثَّل بافتتاح المدارس وزيارة العلماء للمدينة ومكوثهم فيها، حتى أنَّ المؤلف وصف الخليل المملوكية بالقول: "هي التي أطلت على الوجود مدينة ظاهرة ذات حركة ظاهرة، لتستمر في ظهورها عبر العصور، وإلى يومنا هذا"، أمَّا اثناء المرحلة العثمانية فقد كانت المدينة تابعة للقدس، وشكلت عام 1840 مركزًا إداريًا لناحية جبل الخليل، وأصبح لديها مجلس بلدي بين عامي (1974-1882).
في المنهجية وبعض الموضوعات... ملاحظات عامة
أفرد المؤلف جزءًا من كتابه لمناقشة بعض المسائل التاريخية المهمة، وبعضها لها دلالات سياسية وتستدعى بكثافة في ظل الوضع الميداني الساخن داخل المدينة منذ احتلالها عام 1967، رغم أنَّها تعود لقرون طويلة، من قبيل مناقشته المتميزة للوجود اليهودي القديم في الخليل، وما ارتبط به من موضوعات، وقد جاء ذلك تحت أكثر من عنوان مثل: هل كانت الخليل عاصمة داود الأولى؟ والخليل ومملكة يهوذا، والوجود اليهودي في الخليل قبيل الفتح الإسلامي، ونظرًا لحساسية هذا الموضوع وتداعياته على حاضر المدينة ومستقبلها، فقد كان من الأفضل تسليط المزيد من الضوء عليه واستكمال الفصل في معالجة المغالطات الصهيونية.
بدا تحلي الكاتب بروح الموضوعية والأمانة العلمية ظاهرًا في أكثر من موضع في الكتاب، فعلى الرغم من حالة الاستقطاب الناجمة عن ثورات الربيع العربي، وخطابات الضخّ الطائفي، فقد أثبت في سِفْره جهاد الفاطميين ضد الفرنجة ونقل عن عدة مصادر حوادث الهجمات الفاطمية ضد الفرنجة بعد أقل من أربع سنوات على سقوط القدس، كما أنَّه انتقد تضخيم بعض المؤرخين للجهود العلمية في الخليل إبان الحقبة المملوكية، في موقفٍ نمَّ عن ابتعادٍ عن روح المناطقية الذميمة، إذ كان بإمكانه وهو الخليلي المحب لمدينته، أن يكتفيَ بسرد تلك الروايات المضخمة دون عرضها على النقد التاريخي، في المقابل نرى تأثره بالصراع في فلسطين وما ارتبط به من مقولات أتت في سياق تأكيد أحقية العرب بفلسطين مثل إشارته إلى أنَّ أهل الخليل في العصر الحديث هم جزء من الشعب الكنعاني وأن الذي زال من فلسطين والخليل هو سيطرة الكنعانيين وليس وجودهم، وهي إشارة مهمة لكنها بحاجة إلى مزيد من الدراسة والفحص، وهنالك مثال آخر أظهر فيه تأثُّرًا ببعض القناعات السياسية مثل وصفه لمحمد علي باشا بأنَّه رجل بريطانيا، وهي معلومة يقتضي العمل التاريخي الجاد عدم التسليم بها إلا بعد بحثٍ دقيقٍ أو رجوعٍ إلى مصادر علمية رصينة تؤكد صحتها.
ومسألة أخرى لها علاقة بالمصطلحات ذات البعد الإشكالي التي تملأ الكتابات حول تاريخ فلسطين القديم، إذ يلجأ بعض الباحثين لاستخدامها لوصف بعض الظواهر والأحداث والأماكن، دون الوقوف على معانيها ودلالاتها، وقد وقع المؤلف في مثل هذا أحيانًا، فكان مرةً يصف سلوك اليهود المكابين تجاه الرومان بالثورة ومرة بالتمرد، والأَولى الفصل في المسألة بعد تحقيق وتدقيق لما لهاتين الكلمتين (الثورة والتمرد) من دلالات مختلفة، واستخدم مصطلح الغزو الصليبي لوصف الحملات العسكرية الأوروبية على فلسطين رغم أن الأَولى وصفها بالحملات الفرنجية أخذًا بعادة مؤرخينا المتقدمين، واستخدم مصطلح السامرة لتوصيف منطقة جغرافية معينة من فلسطين، رغم ما لهذا المصطلح من دلالات تعزز الرواية الصهيونية، فلو أنَّه استبدله بمصطلح آخر أو استخدمه بشرط وضعه بين هلالين لكان أجدى.
ملاحظة إضافية:
بقي أن أشير إلى ملاحظة أخيرة، تتعلق بمحاولة المؤلف سد الفجوات في تاريخ الخليل عبر الرجوع إلى تاريخ فلسطين بعموميته، على اعتبار أن ما حدث في فلسطين حدث في الخليل، وهو حلٌّ منطقي اعتمده عدد من المؤرخين سابقًا، لكنَّه ساهم في وقوع المؤلف في شَرَك التوسع دون حاجة، من قبيل توسعه في الحديث عن الكنعانيين وأصولهم وتطور حضارتهم وقصة هيرودوس وقسوته، والإطالة في تناول تاريخ الطولونيين والإخشيديين والزنكيين، وكان الأفضل في مثل هذه الحالات الاختصار في المتن ونقل التفاصيل إلى الهوامش.
وقفة مع مصادر الكتاب ومراجعه
استند المؤلف في سَرْده لتاريخ الخليل على ما دوَّنه المؤرخون والباحثون حول حركة الإمبراطوريات والدول والجماعات البشرية والملوك والأمراء والولاة وقادة الجيوش، وتداعياتها على فلسطين عامة والخليل بشكل خاص، وقد رجع إلى مائة وأربعة وتسعين مصدرًا ومرجعًا كلها مطبوعة وباللغة العربية، ولا يخفى جهد المؤلف في جمعها وقراءتها واختبارها وترجيح بعض ما ورد فيها من رواياتٍ وإسقاط بعضها الآخر، ومن اللافت أنه تجاهل بعض المصادر، رغم أنّها كان يمكن أن تثري موضوعه مثل سجلات المحاكم الشرعية، والأرشيف العثماني، والأدبيات الغربية باللغات الأجنبية، كما أنَّه ضيق استخدام بعض المصادر التي قد تحوي إشارات تاريخية حول الخليل مثل المدونة الفقهية وأشعار العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وكتب الأدب، وكان الأجدى عدم استخدام المؤلفات الوسيطة واستسهال النقل عن مصدرٍ نقل بدوره عن مصدرٍ آخر، في ظل وجود إمكانية للرجوع إلى المصدر الأول، خصوصًا وأن لكل قارئ عينًا ولكل باحث طريقة في فهم النصوص والاستفادة منها، ولربما استنتج القارئ جديدًا في نصٍ ما اعتاد الباحثون النَقَل عنه دون انتباه.
اعتبر المؤلف أن الوحي الرباني الصادق أحد مصادر التاريخ، وهو مفيدٌ خصوصًا في حالة شح المصادر، ووجود فجوات تاريخية بحاجة إلى إغلاق، كما في بعض المحطات التاريخية لمدينة الخليل، ورأى أنَّ هذا الوحي متمثلٌ أصدق تمثيل بالقرآن والسنة الصحيحة لذا لا حرج في استخدامهما، وقد فعل ذلك في كتابه وإن على نطاق ضيق، على أن هذا النهج قديم في الكتابات التاريخية الفلسطينية، فقد سبق النتشة في ذلك مؤرخون وجغرافيون من أمثال عارف العارف ومصطفى الدباغ وغيرهما، لكنَّ هذا الاستخدام تراجع في النصف الثاني من القرن العشرين تحت تأثير تبني المؤرخين والباحثين الموقف الأيديولوجي الرافض لمبدأ الغيب مصدرًا للمعرفة، أو انسجامًا مع التوجهات الفكرية للمؤسسات البحثية الغربية وموقفها من القرآن والسنة، أو محاولة للخلاص من هيمنة التوراة على الكتابات التاريخية القديمة عبر رفض استخدام كل ما هو مقدس مصدرًا للتأريخ ويأتي القرآن والسنة في جملة المقدس.
لقد نحى المؤلف منحى خاصًا في التعامل مع التوراة، خصوصًا وأنَّها ذكرت الخليل في أكثر من موضع، فلم يرفض استخدامها، رغم تأكيده على أنَّها ليست مصدرًا موثوقًا، لأنَّها، حسب قوله، ضاعت فترة طويلة من الزمن، وتُرجمت إلى اليونانية ثم تُرجمت مرة أخرى إلى العبرية، وهي تتضمن أحداثًا مخالفةً للحقائق الأثرية والوقائع التاريخية المثبتة، وقد أَخَذَ بالرأي القائل باستخدامها في الوقائع التي ثبتت في المصادر التاريخية الموثوقة من وثائق وآثار وغيرها، وهو رأي أخذ به أكثر من مؤرخ فلسطيني منهم إلياس شوفاني، وهو بهذا الموقف خالف من أخذوا منها دون حذر مثل عارف العارف ومصطفى الدباغ، أو رفضوا استخدامها على الإطلاق مثل أحمد الدبش وغيره.
خاتمة
هذا الكتاب هو الثامن للمؤلف، وقد أعدَّ أجزاءً منه أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال، وصدر في وقتٍ تتصاعد فيه معاناة مدينة الخليل من سياسات التهويد، وهذا يضفي عليه أبعادًا أخرى تتجاوز البحث الأكاديمي الصرف، وتعطي معنى خاصًا للكتابة التاريخية في فلسطين حيث تعتبر في جانبٍ منها آلية صمود وفعل مقاوم، تواجه رواية غريبة عن البلاد وتاريخها، أمَّا ما أشارت له القراءة أعلاه من ملاحظات في إطار النقد العلمي، فهي لا تلغي أهمية الكتاب ولا تمس كونه مساهمة بحثية تستحق الشكر والثناء.
لتحميل مراجعة الكتاب بصيغة pdf :
١مراجعة الكتاب