معركة جنين الثانية...الآثار والتداعيات

معتصم سمارة
13-07-2023

معركة جنين الثانية... الاثار والتداعيات
لقد باتت جنين ومخيمها عقدة بالنسبة لإسرائيل فلا تزال معركة مخيم جنين في الانتفاضة الثانية صدمة وعقدة، ففيها قُتل 23 جنديًا في أزقة المخيم، ما أجبر رئيس أركان جيش الاحتلال حينها، شاؤول موفاز، إلى الإشراف وإدارة المعركة شخصيًا.
وهي معضلة أيضا للأجهزة الأمنية والمستوى السياسي والإعلام في إسرائيل، فهم يدركون أن المقاومة المسلحة لن تتوقف غداة هذا العدوان، وبإقرار الجيش بأن الهدف كان "إرجاع" المقاومة المسلحة إلى الوراء.
بحسب التقارير الإسرائيلية، فإن الجيش تحفظ من إطلاق عملية واسعة في شمالي الضفة الغربية، وكان يفضل استمرار الاقتحامات المتكررة المحدودة في جنين، لكن تصاعد عمليات إطلاق النار وسقوط قتلى إسرائيليين واستهداف آليات الاحتلال بعبوات مفخخة، زاد من الضغوطات الداخلية وتحديدًا من قبل قيادة المستوطنين على الحكومة لإطلاق عملية واسعة في جنين.
لذا، فإن هذا العدوان في جانب منه هو تكتيكي عسكري، وهو في الجانب الآخر رضوخ لرغبة المتطرفين الصهاينة الذين باتوا يشغلون مواقع عليا سواء في الحكومة او في قيادة المؤسسة الأمنية والعسكرية 
ويأتي هذا العدوان بعد مقتل 28 إسرائيليا منذ مطلع العام الجاري في عمليات مسلحة في الضفة الغربية وداخل "البلدات الإسرائيلية"، وهو ما تعتبره الجهات الأمنية الإسرائيلية أمرًا خطيرًا ومقلقًا في ظل تزايد عمليات إطلاق النار والقنص في شمالي الضفة الغربية، على الرغم من الاقتحامات اليومية لجنين والحصار الاقتصادي عليها، التي شكك محللون إسرائيليون في جدواها.
وأطلق جيش الاحتلال على العدوان في رسالة داخلية للجنود تسمية "عملية البيت والحديقة"، لكنه تجنب في بياناته الرسمية في ساعات العدوان الأولى تسميته بالعملية العسكرية، بل استخدم مصطلح "مجهود" للقضاء على البنية التحتية للمقاومين في جنين.
ويعكس ذلك، حذرًا إسرائيليا من امتداد المواجهة إلى مناطق مختلفة من الضفة الغربية وصولًا إلى غزة ولبنان، أي وحدة الساحات؛ إضافة الى عدم رفع سقف التوقعات من العدوان لدى الرأي العام الإسرائيلي، مدركة أن المقاومة ستستمر في اليوم التالي؛ عدا عن رغبة الجيش والحكومة بعدم إثارة الرأي العام الدولي وتجنب ضغوط دولية.
في السنوات الأخيرة باتت إسرائيل تحدد أهدافها بناء على  مسار المعارك، خشية الفشل كما حدث اكثر من مرة في قطاع غزة، فكلما زادت شراسة المقاومة، واحتمال وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين وعمليات تدمير واسعة للمباني، والأهم احتمال وقوع خسائر إسرائيلية، إضافة لاحتمال حدوث ردود فعل انتقامية من الضفة وغزة، كلما تراجعت طموحات العملية الإسرائيلية إلى مجرد تصفية عدد من المقاومين ومصادرة بعض الأسلحة، وخاصة أن المقاومة مدعومة هذه المرة بالخبرة الكبيرة التي اكتسبتها حماس والجهاد في غزة في مقاومة التوغلات والهجمات الإسرائيلية.
نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة عدة عمليات في مدينة جنين. وخرجت هذه القوات من هناك بإصابة سبعة جنود وعناصر من حرس الحدود الإسرائيلي بجروح في المرة الأخيرة التي سبقت المعركة. بالإضافة إلى ذلك، قُتل ستة فلسطينيين – من بينهم فتى وفتاة في الخامسة عشرة من العمر، ودمر المقاومون الفلسطينيون مركبة وأصابوا سبعاً أخريات وظل الجيش الإسرائيلي عالقاً لساعات في محاولة إخراج قواته، واضطر لاستخدام مروحيات أباتشي لأول مرة في الضفة منذ الانتفاضة الثانية، كان ذلك مؤشراً على شعور إسرائيل بتزايد قوة المقاومة في الضفة الغربية.
وقبل العملية بيومين، أطلق صاروخان من منطقة جنين باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وانفجرا داخل الضفة الغربية. وجد تحقيق أجراه جيش الاحتلال الإسرائيلي أن أحد الصواريخ سقط على بعد خمسة أمتار من موقع الإطلاق، و80 متراً أخرى. وكشف التحقيق أن الصاروخ من إنتاج ذاتي دون إمكانيات متطورة، ولا يشكل خطراً مباشراً على السكان في المنطقة المستهدفة.
ولكن إسرائيل تتذكر جيداً أن صواريخ غزة بدأت بشكل بدائي للغاية، وكان البعض يصفها بالصواريخ الكارتونية، والآن تحولت لسلاح ردع فعال وتصل لتل أبيب وأحياناً حيفا.
أكثر ما يقلق إسرائيل من نموذج جنين أن المسألة لا تتعلق فقط بما يشكله الوضع الحالي من تهديد للمستوطنين ولإسرائيل تحديداً، ولكن حالة المقاومة في جنين مرشحة للتصاعد، بشكل يؤدي لتشكيل حالة مسلحة في الضفة يصعب احتواؤها وتتجه لأن تكون غزة جديدة، خاصة مع مؤشرات على صعود دور حماس والجهاد وكتائب شهداء الأقصى، إضافة للمجموعات غير الحركية، الأصعب في التتبع أو التنبؤ بتصرفاتها، فنابلس وجنين بالذات تقلقان إسرائيل، حيث يبدو أنهما خرجتا عن سيطرة السلطة والاحتلال على السواء، وأصبحت إسرائيل مقتنعة ان السلطة الفلسطينية ليس بمقدورها مواجهة الحالة او تفكيكها.
حيث انه وفي جنين مثل بقية المناطق الأخرى في الضفة، يبدو الجيل الجديد محبطاً من فشل التسوية السياسية واستسلام السلطة الفلسطينية لهذا الواقع، وقناعته في تحولها لقوة لتوفير الأمن لإسرائيل مع فسادها المشهود، وزاد الأمر صعوبة على السلطة أن أجواء المقاومة الحالية في الضفة ومنها جنين، تصدر من أوساط وشباب قريب لفتح ومحسوب عليها ما يجعل عملية قمعها من قبل السلطة محرجة، إذ عادةً تتحمس السلطة لقمع أي نشاط سياسي أو عسكري لحماس أكثر من أي شيء باعتبارها غريمتها السياسية.

لقد خرجت إسرائيل من المعركة دون ان تحقق إنجازا لافتا سوى اغتيال بضعة مقاومين، سرعان ما سيتم تعويضهم فيظل جيل شاب داخل المخيمات يتسابق للانخراط في صفوف المقاومة، إضافة الى احداثها لدما وتخريب في البيوت والممتلكات داخل المخيم، وهذا أيضا سرعان ما يتم إصلاحه وتعويضه. في مقابل ذلك خرجت كتائب المقاومة في المخيم اكثر صلابة والتفافا للجماهير حولها، كما انها اكتسبت خبرة اكبر في مواجهة الاحتلال والتصدي لاقتحاماته، عدا عن البعد النفسي والثقة في النفس التي اكتسبتها.
ليس بإمكان إسرائيل الهرب من السؤال الأساسي بعد انتهاء العدوان الجاري، من سيسيطر على جنين؟ فالجيش غير مستعد للبقاء في أزقة المخيم لفترة طويلة وتحويل جنوده إلى أهداف متحركة للمقاومين. إذًا، هل ستسلم إسرائيل السلطة الفلسطينية إدارة المخيم والسيطرة عليه؟ وهل السلطة فعلًا قادرة على فعل ذلك، خصوصًا في ظل التدمير والخراب الذي زرعه العدوان في المخيم؟
تقول إسرائيل إن السلطة الفلسطينية غير قادرة على مواجهة خلايا المقاومة في الضفة المحتلة، فيما يريد نتنياهو إضعافها ويفرض عقوبات اقتصادية عليها، وسموتريتش وبن غفير يريدان تدميرها وانهيارها، وتحويل الضفة إلى حكم عشائري مناطقي مرتبط بالاحتلال. إذًا، من سيسيطر على المخيم بعد هذا الدمار. 
ان ابرز نجاح للمقاومة في جنين، انها مرشحة بقوة ان تشكل نموذجا يحتذى لدى كثير من المخيمات والمناطق في الضفة الغربية، ما سيشكل تحديا كبيرا لإسرائيل من ناحية، ويضع السلطة الفلسطينية ومشروعها في موقف لا تحسد عليه.