نفق الحرية....دروس وعبر

معتصم سمارة
25-09-2021

رأي

نفق الحرية....دروس وعبر

معتصم سمارة

 

يبدو أن الستار قد أسدل على أحداث نفق الحرية في جلبوع مع اعتقال آخر أسيرين من الأسرى الستة أبطال القصة، لكن إرهاصات الحدث الأشهر على الساحة الفلسطينية منذ بداية العام وأصداءه ما زالت تتردد، فقد تصدر خبر تحرر الأسرى الستة بهذه الطريقة الهولويدية عناوين الأخبار على معظم شاشات التلفزة العاليمة والمحلية لأيام عديدة، وبقيت القصة حديث رواد وسائل التواصل الاجتماعي طيلة الفترة الماضية، ولكن الأهم أن سيناريو التحرر تحول إلى مصدر إلهام لمعظم الباحثين والكاتبين في شأن الصراع العربي الصهيوني، وليس في شقه الأمني فقط، بل يتعدى ذلك إلى العديد من مجالات الحقل المعرفي، وسيسعى الكتاب والباحثون إلى استلهام الدروس والعبر كل حسب اهتمامه ووجهة نظره والزاوية التي رأى منها هذا الحدث.

إن من ينظر إلى الأمر بصورة أعمق وأوسع سيجد حتمًا أن الحدث أكبر من مجرد انتزاع ستة أبطال لحريتهم من بين أنياب الاحتلال، على ما في الأمر من بالغ الأهمية. إن مجرد القرار  بالتفكير في الهرب، ومن سجن جلبوع بالذات، هو قمة التحدي واختيار أصعب الأهداف وأبعدها منالاً وسلوك أكثر الطرق وعورةً، ولكنه في ذات الوقت قرار يكشف عن مدى عمق الإيمان والرغبة في البحث عن الحرية والحق في امتلاكها أيًّا كانت الظروف صعبة أو مستحيلة، وهو أيضًا يشير إلى مدى الاستعداد لدى أبطال القصة لدفع الثمن مهما كان باهظًا، فلا بد أنهم كانوا يدركون، بحكم خبرتهم الطويلة في التعامل مع مؤسسة الاحتلال الأمنية، أن احتمال القبض عليهم أثناء الحفر أو في لحظة خروجهم من النفق أو بعد ذلك هو احتمال وارد جدًّا، ومع ذلك كان الإصرار والتصميم لديهم أقوى من كل هذه المخاوف والمخاطر معًا.

إن اعتقال الأخوة الأحرار خلال وقت قصير من تحررهم؛ هو لا شك إنجاز للاحتلال، ولكنه في ذات الوقت لا يقلل أبدًا من حجم الضربة الأمنية الموجعة التي تلقاها هذا الكيان بخروجهم الناجح وبهذه الطريقة المعجزة، فقد مثل نفق الحرية انتصارًا حقيقيًّا لأفراد ستة عزل أمام دولة تتنفس مؤسساتها الأمن كما يتنفس الناس الهواء، وهو انتصار لا يمكن إلغاؤه أو التقليل من شأنه رغم إعادة اعتقال الأسرى، فقد كان فعلهم هذا بمثابة ممارسة فعلية لكي الوعي ولكن من السجين على السجان.

في لحظة واحدة انهارت كل نظريات الأمن والتحكم والسيطرة التي طالما تباهى الاحتلال الصهيوني بتصديرها إلى العالم، لقد فشل العقل الأمني الصهيوني فشلاً مدويًّا رغم ما يمتلكه من إمكانات وخبرة طويلة أمام الفرد الفلسطيني المعتقل الذي آمن بحقه في الحرية وبقدرته في الحصول عليها.

ستبقى قصة النفق الشهير شاهدةً على أن أهل الباطل مهما امتلكوا من قوة وسباب مادية فإنهم عاجزون عن تكبيل إرداة المظلوم وسعيه الدؤوب نحو استرداد حقه إذا أراد ذلك، فلا بد في النهاية للقوي من نقطة ضعف وللضعيف من نقطة قوة، وإذا ما اصطدمت نقطة قوة الضعيف مع نقطة ضعف القوي فإن الغلبة والنصر حتمًا للأول، وهذا ما حصل في قصتنا، فقد امتلك الأسرى الإرادة والعزيمة وطول النفس، إضافة إلى العامل الأهم وهو الوقت، بينما أصيب عدوهم بالترهل والروتين والغرور القاتل فكانت النتيجة التي أفقدت هذا العدو صوابه.

لقد أكد نفق الحرية أن المزاج الشعبي العام ليس لدى الفلسطينيين فقط، بل لدى الشعوب العربية وكل أحرار العالم، هو مع خيار المقاومة وانتزاع الحقوق بالقوة، فقد حظي الأسرى وقصتهم البطولية بتعاطف شعبي منقطع النظير، وتصدروا المشهد دون منازع، ولو أن الضفة الغربية غير مستباحة من الاحتلال من ناحية، وحاضنة مقاومتها مفككة وخارجة عن الخدمة من ناحية أخرى لكان المشهد قد انتهى بصورة مختلفة تمامًا، أو ربما على الأقل حظي الأحرار الستة بفترة أطول بكثير في الحرية.

لن يتوقف نفق الحرية أن يكون درسًا ملهمًا لكل أصحاب نظريات المقاومة أينما كانوا، ومهما كانت إمكاناتهم المادية ضعيفة، وبأن الصبر والإصرار هو عدة المقاوم الأساسية، وصدق الشاعر حيث قال: "أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته      *   ومدمن القرع للأبواب أن يلج".

وفي المقابل شكل الحدث درسًا قاسيًا لمن يريد أن يتعظ من أصحاب نظرية الحياة مفاوضات والتسليم بتفوق الاحتلال في المجالات المادية، أو الاستسلام لميزان القوى العالمي المختل دومًا لصالح الاحتلال أو القبول بمقولة "أن الكيان دولة لا تقهر".

لو نطقت رمال سهل جلبوع لقالت إن الحياة مقاومة وصبر وتصميم، وإن القيود مهما طال عليها الزمن إلى زوال، وإن الوحدة الوطنية هي ربما اللبنة الأولى التي تبنى عليها كل مشاريع بناء الدولة أو تحرير الأوطان، ولو نطقت ملاعق السجن لقالت إن الإنسان لا يعدم الوسيلة، وستبقى الأيام تعلمنا شيئًا فشيئًا عن خبايا هذه القصة وتفاصيلها الملهمة لكل صاحب همة وإقدام.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبر عن وجهات نظر كتابها، وقد لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز.