هل انتصر منصور عباس؟
عماد أبو عوّاد
ملخص
بالمجمل ما يُمكن قوله أنّ الحالة الفلسطينية بمجملها بحاجة إلى ترميم داخلي، وربما القاعدة الأهم للنجاح أن يؤمن الفلسطيني بالآخر، وأن تتحلى القيادات السياسية بروح المسؤولية لا بعقلية الردح والأنا، فالجمهور الفلسطيني واعٍ إلى حد بعيد، ويُدرك تماماً صدق الصادق وكذب الممثلين. العبرة بالنتائج والخواتيم، والنتيجة بالمجمل كانت كارثية، وإذا ازدادت أحوال الفلسطينيين في الداخل سوءاً، فإنّ المسؤولية تقع على جزء من سياسييهم، وبعيداً عن المواقف المسبقة، والأبعاد الحزبية لكلّ منا، فإنّ قراءة تجربة منصور عباس بموضوعية، ستكون لها انعكاسات إيجابية على الكلّ الفلسطيني بعد أن تحول إلى الحزب السياسي الأكبر، وحظي بثقة شريحة كبيرة، لا يُمكن لنا أن نشكك بها أو بتوجهاتها وانتمائها وإلّا على الدنيا السلام.
لو سؤلت أيّ الخيارات أسلم، لأجبت مقاطعة الانتخابات والكنيست، ومع ذلك فإنّي لا أعيش الواقع ولذلك أقدر ما تذهب إليه شريحة وازنة من الفلسطينيين، ولكن إن كانت تجارب الكنيست بالمجمل فاشلة، فإنّ الإصرار عليها سيفتح مجال الشك والتشكيك، والعودة إلى العمل على الأرض من خلال إعادة إحياء لجنة المتابعة وعقد انتخابات مباشرة لها، هو الخيار الأسلم، فمع نتنياهو وحكومته المزمعة، لن يكون للأعضاء العشرة في البرلمان تأثير، فلا صوتهم يحيي خياراً ولا غيابهم سيؤثر، ستعود الشعارات والخطابات إلى الواجهة من جديد، وربما سيكون الحلم المرافق لهم حبذا لو كان بمقدرتنا التأثير من خلال الضغط على الائتلاف والإمساك برقبته.
من المؤسف القول أنّنا تعودنا في الساحة الفلسطينية للعن بعضنا البعض لا لأسباب منطقية، سوى سخطنا على الآخر كونه آخر مختلف عنّا، حيث لم يكف الشعب الفلسطيني أو بدقة أكبر شريحة منه عن ادعائها اختزال الحقيقية، وعن كونها الطرف الذي يُمثل دون غيره صوابية المسير أو القرار، ويأتي ذلك في أوقات تتطلب تكاملاً وتكاتفاً في مسارات شتى في ظل تعاظم التحديات وتنوعها، بيد أنّ الملاحظ أنّ حالة التشرذم والانقسام تتناسب طرديا لا عكسياً مع تلك التحديات، التي تؤشر بشكل جلي وواضح أنّنا نفرغ الضغوط الممارسة علينا ضد بعضنا. والمحزن أنّ هذا ينسحب على الفلسطينيين أينما حلّوا أو ارتحلوا، فلم تكفينا النكبات المتلاحقة، بل راقتنا حتى بتنا نستنسخها ما بين محطة وأخرى.
ولعلّ ما حدث في الداخل المحتل خلال العامين الأخيرين، في ظل اختلاطٍ كبيرٍ لمجموعة من الأحداث، تصدرها حدثان، الأول حراك أيّار 2021، سيناريو يوم القيامة وفق تقديرات الاحتلال، وما ذهبت اليه القائمة الموحدة بزعامة الدكتور منصور عباس من خلال دخول الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، في محاولة منه للتأثير وتحسين الواقع الفلسطيني، الموقف الذي دفع إلى نمو مواقف مسبقة سلبية مقيتة عند طرف، وإيجابية مطلقة عند آخر، وما بينهما عقلانية ارادت دراسة السلبيات والايجابيات بعيداً عن الصوت المرتفع والجعجعة التي لم تثمر طحيناً.
وكما يُقال فقد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، ولأنّ هذا المقال معنون بسؤال "هل انتصر منصور عباس"؟، فإنّني سأبذل قصار جهدي للوصول إلى إجابات متنوعة لأسئلة مشروعة، كانت وستبقى مصاحبة لكل متابع ومهتم بالحالة على اختلاف مشاربهم، سواء القارئ بموضوعية والحريص على التصويب والوقوف على الأحداث، أو الآخذ بها في اتجاه واحدٍ يعتمد على تشويه الحالة والآخر، حتى وإن تفوق عليه فكرياً أو سبقه عملياً في العمل على الأرض.
- لماذا أوصت القائمة المشتركة على بيني جانتس؟
حيث وفي مناسبتين مختلفين ذهبت القائمة العربية المشتركة بكسر الأعراف وأوصت على بيني جانتس كمرشح لرئاسة الحكومة، في الأولى امتنع التجمع من أن يكون شريكاً في التوصية، أمّا في الانتخابات التي تلتها في مارس\آذار 2020 كان التجمع شريكاً في هذه التوصية التي كانت تحت عنوان نريد اسقاط نتنياهو!، الذي كان يُشكل معضلة أساسية وفق تقديرات الفلسطينيين في الداخل، وكان سبباً أساسياً في استمرار سلسلة التراجع العام في واقعهم، وتفعيل ماكينة العنصرية الضاغطة بحقهم، ما ولّد عقداً من الزمن كان هو الأشد خلال توليه رئاسة الوزراء ما بين الأعوام 2009-2021.
محاولة التأثير إذاً حضرت من خلال هذا الاتجاه، فماذا كانت تُعد هذه التوصية في حينه، ألم يسبقها اجتماعات ما بين ممثلين عن المشتركة وممثلي جانتس بهدف الوصول إلى تفاهمات، ألم تُقدم المشتركة مطالب حياتية تتمثل في ضرورة تحسين الواقع الفلسطيني في الداخل المحتل. وإذا كانت هذه الصورة، ألا يُعد ذلك تدخل مباشر في الائتلاف الحكومي، ووجود على الضفاف لو كان لجانتس الجرأة على الاعتماد على الأحزاب العربية حينها، أم أنّ التوصية على جانتس كانت ترفاً سياسياً واستعراضاً لإمكانات اللعب في الساحة السياسية.
- ماذا حقق الفلسطينيون من دخول الكنيست وحده؟
دائما ما كانت الاستنتاجات حاضرة حول مشاركة الفلسطينيين في الكنيست، لم يُحقق شيئاً، لم يمنع القوانين العنصرية من المرور، لم يُقدم في الواقع المعيشي للسكان الفلسطينيين، وصولاً إلى حد توجيه اتهامات لشخصيات بعينها، أنّ دخول الكنيست يُمثل لها أهدافاً شخصية بحثاً عن المنصب والجاه، وما يُدلل على ذلك ارتباط بعض الأحزاب بشخوص بعينهم، لا ببرامج حقيقة ولا بتبادل صحي وتناوب لقيادة تلك الأحزاب.
ما جدوى التواجد إذا في الكنيست؟ دون التأثير لمصلحة الفلسطينيين، ويُمكن هنا القول إنّ حجة مقاطعي الكنيست والانتخابات أقرب للمنطق، وقولهم أنّ ذلك حجب التأثير الفلسطيني على الأرض من خلال اضعاف الحراك الفلسطيني في الشارع وقوقعته في الكنيست بدل تركزه في لجنة المتابعة، ولعلّ هذا الطرح أكثر اقناعا، فدخول الكنيست إذا لم يُثمر، فما الفائدة المرجوة منه؟
- ماذا حققت الموحدة من دخول الائتلاف؟
السؤال ربما الأهم والأبرز، لكن طرحه ربما غير منطقي بعد انهيار حكومة بنت-لبيد في غضون عام ونيف على تشكيلها، وربما الشهور القليلة القادمة ستكشف عن نتائج هذه المشاركة، سواءً استطاعت أن تُقدم شيئاً في اتجاه تحسين الواقع الفلسطيني المعيش، أو كانت النتائج صفرية، وربما الإجابة عن هذا التساؤل يحتاج إلى تحليل معمق وغوص ميداني واستطلاع مسحي شامل في مناطق بعينها.
لكن إذا لم تُحقق الموحدة شيئاً، أو على الأقل إن لم تعرض برنامجاً مقبولاً ولم يؤمن بها شريحة وازنة من الفلسطينيين، إذا لماذا صوت لها قرابة ال200 ألف ناخب، بارتفاع 35 ألف صوت عن الانتخابات السابقة، وهو بالمناسبة ذات الجمهور بالمناسبة وفي ذات المناطق التي تصوت بالعادة للموحدة مع جذب شرائح أخرى، أم أنّنا نمتلك جمهوراً غبياً موجهاً، الحقائق واشارات التصويت في الداخل، تؤكد أنّ الفلسطينيين بالمجمل لديهم وعي سياسي جيد إلى حدّ ما.
- لماذا كل هذه الاتهامات لمنصور عباس للموحدة؟
كثيرة هي الاتهامات التي وُجهت لشخص رئيس الموحدة منصور عباس على وجه الخصوص، وللموحدة بشكل عام، وتمحورت تلك الاتهامات بأنّ الخط الذي يسلكه عباس متأسرل ومتصهين، ويُساهم مع مرور الوقت بتوجيه ضربة للبعد الوطني، وجلّ هذه الاتهامات كانت من غير فلسطيني الداخل المحتل، على اعتبار أنّ المشاركة في الائتلاف جريمة وطنية وأخلاقية، وأنّ من واجب عضو الكنيست الفلسطيني العمل لهموم الفلسطيني أينما تواجد واستمرار رفض السياسة الصهيونية، ما لا يختلف عليه اثنان، ولكن السؤال هل مشاركة منصور ساهمت في تراجع البعد الوطني؟، وهل صراخ الآخرين حافظ عليه أو ساهم في تحسين أوضاع الفلسطينيين في الداخل؟.
والأهم من ذلك هل تُقاس المواقف المبدئية بالشعارات الرنانة، أم بمحاولة تحقيق رافعة ولو بوسائل مختلفة للحفاظ على وجود محترم للفلسطينيين في الداخل وفق طرح الموحدة، وما بين الأول والثاني فإنّ المنطق يسير باتجاه الخط الأخير، واذا كانت الشعارات لم تمنع قوانين كالقومية وغيرها، والوجود في الكنيست بات مسرحية، فإنّ اختلاق مسار جديد للحد من تغوّل الاحتلال هو الواجب الوطني الأول، وحقيقة ما بين خط الكنيست دون الائتلاف، وخط المقاطعة وترك العمل السياسي تحت قبة البرلمان، فإنّ تيار عدم المشاركة وتيار التأثير بواسطة الائتلاف أكثر اقناعاً من التواجد في الكنيست وفقط.
ورغم الهجوم الكبير، فإنّ السلوك الأخلاقي لمنصور عباس كان ملفتاً للنظر، فقد تصرف الرجل سواءً اختلفنا أم اتفقنا معه بروح أخلاقية تفوق فيها على غالبية شركاءه تحت قبة البرلمان، فلم يعد بهجوم شبيه لكلّ من سلقه بألسنة حادّة، وتصرف بمسؤولية كبيرة وكرجل يحمل مشروعاً لا أهداف شخصية، مسؤولية ربما افقدته مقعدا خلال الانتخابات الأخيرة، فعلى خلاف رؤساء بقية القوائم هو الوحيد الذي طالب الفلسطينيين بالتصويت وفقط للأحزاب العربية، وقبلها دعاهم إلى ميثاق شرف وبل سبق ذلك بدعوة لتوحيد المشتركة خلال الانتخابات وبعدها ليذهب كلّ فريق إلى برنامجه.
ومن ثم لم يكن منصور عباس ملوثاً بتآمرات داخلية، ولم يتفق مع يائير لبيد من تحت الطاولة بأن يتم اقصاء حزب عربي من أجل التمهيد لأنفسهم بولوج عالم التأثير كما قالت زعامات الجبهة والعربية للتغيير، تأثير ارادوه على نهج منصور الذي اسقطوا الحكومة بهدف اسقاطه هو شخصياً لا الحكومة، على أمل ان تكون نتائج الانتخابات مُقصية لعباس. والمضحك أكثر أنّ الشعار الانتخابي للجبهة كان "صوتوا لنا لمنع عودة نتنياهو"، في مشهد مسرحي مضحك، حيث تم اسقاط لبيد (الذي لا يختلف من وجهة نظري عن نتنياهو) بالتعاون مع نتنياهو، من أجل منع عودة الفاشي بيبي وحاشيته للحكم مجدداً.
- كيف تحوّلت الموحدة إلى الحزب الأكبر في الكنيست؟
الوقوف على الأرقام هذه لا يقل أهمية عن الحراك بمجمله، الموحدة التي أراد خصومها إخراجها من المشهد السياسي، استطاعت أن تحصد المركز الأول، وأن تكون للمرة الثانية على التوالي الحزب العربي الوحيد الذي يمر نسبة الحسم منفرداً بعد قانون رفع نسبة الحسم، واذا اتفقنا على أنّ جمهورنا في الداخل المحتل ليس مؤسرلاً ولا متصهيناً، وربما أحداث أيار 2021 كشفت ذلك، فإنّ المنطق يقول أنّ هذا الجمهور كان أكثر اقتناعاً بنهج عباس وأكثر ايماناً بصدقه وبطرحه، ولمس فيما ذهب إليه إمكانية للتغيير دون مساس بالثوابت وإن كانت بعض التصريحات لعباس نفسه مرفوضة بالنسبة لهذا الجمهور، لكنه يعي تماماً أنّها في سياق محاولة تحسين الواقع وليس المنطلقات الإيمانية، فكل سياسي وفي أي ساحة فإنّ التقية بالنسبة له عباءة دائمة.
وبالمناسبة فإنّ بعض تصريحات عباس التي نطق بها، التي كما أشرت يرفضها كلّ فلسطيني، يوقع عليها كلّ عضو كنيست، وتُشير الأحزاب إلى تبينها قبل دخولها اللعبة السياسية وقبل وصولها قبة البرلمان، فهذا الاحتلال وهذه لعبته التي يفرضها. وإلّا ما معنى القسم الذي أداه كلّ أعضاء الكنيست يوم الأربعاء، وهل يُمكننا القول أنّ القسم يعني الإيمان بما اقسموا عليه، أم أنّها متطلبات المرحلة، ومتطلبات يفرضها القوي المفعم بالعنصرية والعنجهية.
على الجانب الآخر فإنّ الفريق المنافس لعباس ظهر بأبشع حلّة ممكنة، خلع لباس الحياء وتآمر على ذاته، أطاح بالتجمع من المشتركة في الدقيقة الأخيرة، ولولا أنّ سامي أبو شحادة كان يقظاً ومستعداً بُحكم اطلاعه على ما تُخفي نفوس شركاءه، لوجد نفسه دون قائمة، ومن جانب آخر فقد ناقض ذلك الفريق نفسه، فمنذ العام 2015 وهو يرفع شعار اسقاط نتنياهو، ليُمهد له طريق العودة على بساط أحمر، قبل أن يكون شريكاً له في المعارضة ضد حكومة هو يرى أنّها أقل سوءا من حكومات نتنياهو، ما ولّد شعوراً لدى شريحة من الفلسطينيين أنّ النكايات لم تكن إلّا ضد العربي الموجود في الائتلاف.
بالمجمل ما يُمكن قوله أنّ الحالة الفلسطينية بمجملها بحاجة إلى ترميم داخلي، وربما القاعدة الأهم للنجاح أن يؤمن الفلسطيني بالآخر، وأن تتحلى القيادات السياسية بروح المسؤولية لا بعقلية الردح والأنا، فالجمهور الفلسطيني واعٍ إلى حد بعيد، ويُدرك تماماً صدق الصادق وكذب الممثلين. العبرة بالنتائج والخواتيم، والنتيجة بالمجمل كانت كارثية، وإذا ازدادت أحوال الفلسطينيين في الداخل سوءاً، فإنّ المسؤولية تقع على جزء من سياسييهم، وبعيداً عن المواقف المسبقة، والأبعاد الحزبية لكلّ منا، فإنّ قراءة تجربة منصور عباس بموضوعية، ستكون لها انعكاسات إيجابية على الكلّ الفلسطيني بعد أن تحول إلى الحزب السياسي الأكبر، وحظي بثقة شريحة كبيرة، لا يُمكن لنا أن نشكك بها أو بتوجهاتها وانتمائها وإلّا على الدنيا السلام.