هل كانت انتخابات الجامعات تعبر عن توجهات الجمهور؟
رأي
هل كانت انتخابات الجامعات تعبر عن توجهات الجمهور؟
سري سمور
في دول عربية عدة؛ كان فوز التيار الإسلامي في انتخابات اتحادات الطلبة في جامعات مركزية عدة يعتبر من المسلمات، بل هناك نظرية منتشرة تقول بأن الأنظمة العربية تتعمد إعطاء مساحات معينة للمعارضة بهدف الاحتواء والتنفيس، ومن ذلك السماح للمعارضة بتحقيق الفوز في انتخابات نقابية أو طلابية.
وباستلام السلطة الفلسطينية قطاع التعليم العالي، وإنشاء وزارة لهذا القطاع، ووجود إدارات مؤيدة أو متوافقة مع الخط السياسي لفتح أو هي منتمية في أغلبها إليه، لم يكن ثمة داع -وفق القياس المذكور- أن تبذل الشبيبة الطلابية، ذراع حركة فتح، وبالتالي ضمنًا ذراع السلطة الطلابي، ما بذلته من جهد ومال كي تفوز بتلك الانتخابات، وتحويل الجامعات إلى ساحة منافسة ساخنة صاخبة مع الخصم السياسي (الكتلة الإسلامية ذراع حركة حماس)، وكان يمكنها تقليد الدول العربية المجاورة في هذا الأمر، بجعل هذه الأماكن مخصصة للمعارضة.
ولكن الأمر لم يكن كذلك، لأن انتخابات الجامعات كان ينظر إليها -وربما حتى الآن- كمرآة تعكس توجهات وآراء الجمهور الفلسطيني، والخط السياسي الذي يميل إليه.
ولكن هل هذه النظرة صحيحة، أو ما نسبة الدقة التي تحملها؟ فإذا كان صلب الدعاية الانتخابية للكتلة الإسلامية هو التباهي بالعمليات الاستشهادية بتعليق لوحات رسمت عليها صور الاستشهاديين، أو ما يمثل عملياتهم، وكذلك إقامة عروض تمثيلية لتنفيذ عمليات استشهادية باستخدام مجسمات لحافلات مستوطنين ووضع ألعاب نارية لتنفجر فيها، وغير ذلك من أنواع الدعاية التي دأبت الكتلة الإسلامية على استخدامها لتعزيز الفكرة والنموذج والنهج الذي تقول للجمهور إنها تسير عليه وتمضي فيه، فهل انتخابها من الطلبة دليل على قناعتهم بالضرورة بهذا النهج؟ وإذا كانت الإجابة (نعم) فماذا عن ذوي كثير من الطلبة الذين سيحرمون من الوصول إلى أماكن عملهم بسبب تلك العمليات، حيث ستفرض سلطات الاحتلال الإغلاق انتقامًا وعقابًا جماعيًّا، هل سيصوتون مثل تصويت أولادهم وبناتهم؟
إن الأمر معقد ومتشابك. ولكن كنت قد قلت في مقالتي هنا الموسومة بـ (الجمهور الفلسطيني بين المقاومة ومستقبل سياسي- اقتصادي موعود) إنه في المرحلة الأولى من توقيع وبدايات تنفيذ بعض بنو أوسلو وملحقاته، لو نظم استفتاء لكانت الأغلبية ستقول لأوسلو، (نعم) وبنسبة واضحة.
والتكملة أنه منذ منتصف عام 1996 فما بعده؛ لو أجري استفتاء لكانت النتيجة وأيضا بأغلبية واضحة هي (لا)، وضرورة الانسحاب كليًّا أو جزئيًّا من الاتفاق ومن عملية التسوية. وانتخابات الجامعات كانت تعبيرًا بطريقة أو بأخرى عن هذا الرأي أو هذه القراءة للأوضاع.
ولكن عملية الاقتراع التي يقوم بها الطالب أو الطالبة تخضع لاعتبارات عدة؛ منها ما هو فردي وشخصي، وقد تحولت الانتخابات إلى نظام التمثيل النسبي، أي انتخاب اسم قائمة أو كتلة بدل انتخاب اسم مرشح، وهو نظام ربما أكثر كتلة طلابية كان يمكن أن تنتفع منه هي الشبيبة، لأن الطالب هنا يفترض أن تستفز عنده العصبية وروح الانتماء بطريقة مباشرة، تستبعد فيها العوامل النفسية الشخصية، ولكن ظلت الكتلة الإسلامية تتقدم وتفوز.
يمكن القول إن نهج العمليات الاستشهادية فعلاً جذب قطاعًا ليس بسيطًا من الطلبة، لدرجة أن قياديًّا بارزًا من الشبيبة الطلابية في جامعة بير زيت تحوّل إلى الكتلة الإسلامية ونفذ عملية استشهادية في القدس في 1997 وهو (خليل الشريف) من مدينة نابلس.
ربما يقال إن هذه حالة فردية خاصة لا يجوز تعميمها، صحيح، ولكن هي حالة تمثل الذروة، وهناك حالات أخرى واضحة، ربما ليست بالضرورة تأييدًا لفكرة العمليات الاستشهادية، ولكن لها دلالات تصب في مجمل وعموم نهج ورؤية حركة حماس السياسية والاجتماعية أو على الأقل حالة من الرضى والقبول لمرشحيها في الجامعات منها:
- قيام طلبة من الطوائف المسيحية في فلسطين ومن الطائفة السامرية في نابلس بانتخاب الكتلة الإسلامية، وهو أمر مشهود، وحمل ربما إجابات لأسئلة كانت تثار أثناء انتفاضة الحجارة، حول احتمالية تعارض فكر حماس الإسلامي مع طبيعة المجتمع ووجود غير المسلمين من أبناء الوطن.
- قيام طالبات غير محجبات بانتخاب الكتلة الإسلامية، وتفاخر بعضهن بذلك، وأيضًا موضوع الحجاب كان من الأمور التي كانت تثار (قبل أوسلو خاصة) باعتبار اللباس حرية فردية وغير ذلك، وكانت الكتلة وما زالت تجيب بأنها لا تضغط على أية فتاة لإلزامها باللباس الشرعي وأنها تستوعب الجميع.
- قيام طلبة بينهم وبين الالتزام بالدين مسافة ملحوظة بانتخاب الكتلة الإسلامية، وتكرار هذا السلوك في غير انتخابات، وبعد مرور سنين طويلة على تخرجهم، يعبرون عن راحتهم وفخرهم بهذا التصويت.
- قيام طلبة وطالبات ممن ينتقدون بل بعضهم ممن يشتمون حركة حماس، وينالون من قياداتها في الداخل والخارج بانتخاب الكتلة الإسلامية، وتبريرهم ذلك بأنهم (أفضل الموجود).
هنا قد تفسر هذه التوجهات بأنها من باب التصويت الاحتجاجي أو الانتقامي أو ليس حبًّا في حركة حماس بل مناكفة أو عتبًا أو احتجاجًا على فتح، وهذا الكلام صحيح في حالات معينة، ولكن لا يمكن تعميمه.
إجمالاً فإن فوز الكتلة الإسلامية في تلك الظروف علامة فارقة تستحق الدراسة والبحث، في ظل عدم امتلاكها ما يمكن مقارنته مع منافستها وخصمها (الشبيبة الطلابية) التي امتلكت موارد مالية ضخمة، وتمثل امتدادًا للسلطة بطريقة أو بأخرى.
الإعلام المحلي والخارجي كان يفسر انتخابات الجامعات تفسيرًا سياسيًّا واضحًا، وذهب بعضهم إلى اعتبارها (بروفة) لانتخابات عامة أو محلية (البلديات)، وهناك من قلل أو شكك بهذا التفسير، ولكن بالمجمل ثبتت الانتخابات الطلابية وجود قطبين كبيرين متصارعين في الساحة الفلسطينية.
والشبيبة الطلابية بالمناسبة استخدمت خطابًا يمجد مقاومة حركة فتح في مراحل سابقة (الكرامة ومعارك لبنان)، ويذكّر بمشاركة رجال الأمن الفلسطيني في هبة النفق. أي أن محور التنافس الفعلي هو المقاومة، وكم قدم كل طرف من الشهداء وكم ألحق بالعدو من الخسائر، وطبعًا الكتل الطلابية الأخرى لم تبتعد عن هذه المظاهر التنافسية.
يجب أن نشير أن طبيعة أجواء الجامعات في الضفة الغربية تختلف عن أماكن أخرى، فهناك شبان في مكان يشهد تنافس قوى سياسية عبر أذرع طلابية، مع أدوات لهذا الصراع تتوج بانتخابات، ولكنها مسبوقة بخطابات وبيانات ومجلات، ومعارض وندوات سياسية، وأنشطة طوال الفصول الدراسية، وهذا الحال بالتأكيد ليس موجودًا في أماكن أخرى غير الجامعة مما يجعل الطالب يتأثر ويتفاعل معه غالبًا.
كما أن الفئة العمرية لطلبة الجامعات (18- 24) عامًا، هي ذروة تفجر الطاقات وانسداح الرغبة في التعبير عن الذات، وطغيان العواطف المباشرة، وعدم اعتماد طريقة حساب ووزن الأمور بطريقة الفئات العمرية الأخرى، وطلبة الجامعة إجمالاً هم متفرغون أي أن عملهم هو الدراسة، وطاقاتهم الكبيرة لا تتنافسها مسؤوليات وهموم مثل غيرهم.
وهذه الطبقة أو الفئة هي مادة الثورات والانتفاضات والحراكات الرئيسة، وخزانها البشري الأهم، ولو فرضنا أن ما تفرزه صناديق الاقتراع الخاصة بها لا يعبر بالضرورة عن توجهات كل الجمهور، ولكنه يعبر عن توجهات الفاعلين أو القادرين على الفعل، لا سيما الميداني.
أما الكتلة الإسلامية فهي مع ما حصدته من فوز وتقدم واضح إلا أنها عانت من بعض المشكلات التي أثرت عليها والتي كتبت عن بعضها في 2012؛ ومن أبرز مشكلاتها أن عددًا من نشطائها بانخراطهم في العمل العسكري قد فتح أعين الاحتلال عليها وجعله يكثف من استهدافها، وهو ما أثر كثيرًا عليها، وقد اقترحت أن يمتنع أي مرشح وقيادي في الكتلة عن هذا النوع من العمل وأية أعمال كبيرة، حتى بعد تخرجه بمدة لا تقل عن عامين.
وأمر آخر، هو أن الكتلة الإسلامية تفتقر للمتفرغين الذين يمكثون في دراستهم سنوات طويلة كي يواكبوها، وتنفرد الشبيبة التابعة لفتح في هذا الأسلوب، حيث إنها تجعل بعض كوادرها يدرسون بكالوريوس وماجستير بأبطأ ما يسمح به النظام والقانون كي يظلوا مواكبين ومتابعين وحاضرين في الجامعات مثل النجاح وبير زيت، مع تحمل نفقات دراستهم وتفريغهم، وكان يفترض بالكتلة الإسلامية أن تقوم بذلك، علمًا بأن كوادرها يتأخرون فعلاً حتى يتخرجوا بفعل الاعتقالات المتواصلة، ولكنها لا تقوم بما يجب أن تقوم به مثلما تفعل الشبيبة.
وأختم الحديث عن الكتلة الإسلامية، بعدم التعاون الكافي من قبل أعضاء الهيئة التدريسية من كوادر وقادة وأعضاء حركة حماس مع طلبة الكتلة الإسلامية، بل حتى التشدد معهم خاصة في موضوع العلامات، والتعامل بصلف وجلافة مع العديد من طلبة وطالبات الكتلة الإسلامية لدرجة نفور بعضهم وانفلاشهم.
وهذا من طبيعة النهج الإخواني التقليدي الذي يصبغ أي منتسب له حين يعمل في مكان ما، فإنه يسعى لاتباع الحرص الشديد والتقيد المبالغ فيه بالنظم والقوانين، حد التشدد، لإثبات أنه يحافظ على النظام ولا يخالفه حتى ضمن هامش محدود أو متاح، ظنًّا منه بأن هذا سيجعله مقبولاً ومرحبًا به.
عمومًا هذه قضية ومسألة سبق وأن أثارها رئيس مجلس طلبة سابق عن الكتلة الإسلامية، طبعًا هو لم يفسرها بأنها طبيعة إخوانية للأفراد العاملين في المؤسسات المختلفة بما فيها الجامعات، ولكنه قارن بين تعامل الكادر التدريسي المنتسب إلى تيارات أخرى مع طلبته، وطريقة تعامل المنتسبين إلى التيار الإسلامي من نفس الكادر مع الطلبة الذين تحت نفس المظلة والانتماء.
بهذا ربما سلطنا الضوء على معظم الجوانب الاجتماعية والسياسية في تلك المرحلة، وإذا لزم سأتحدث عن أمور أخرى، ولكن مبدئيّا سأتحدث في المقال القادم بمشيئة الله عن أمور ميدانية وإرهاصات انفجار انتفاضة الأقصى.
- المواد المنشورة في موقع مركز القدس تعبّر عن آراء أصحابها، وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.