ومضات من جمر منير

هارون عبد الرحمن
14-08-2022
تحميل المادة بصيغة PDF

رأي

ومضات من جمر منير

هارون عبد الرحمن

 

أكتئب كلما قرأت في السيرة باب جهاز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنه. وأكره قراءة مذكرات الصالحين. أأقرأها وكأنني أنعاهم وهم أحياء، أو لأجيل على نفسي الحزن المتجدد والمقت إن كانوا قد قضوا؟ ولهذا فإنني وإن كنت اقتنيت مذكرات منير شفيق "من جمر إلى جمر"، فإنني وضعتها مترددا على الرف. لكن لا بد مما ليس منه بد. كيف تكون مذكرات منير شفيق عندك ولا تقرأها؟ أحب هذا الرجل حبا جما. وكيف يمكن لفلسطيني أن لا يحبه؟ اسمه منير شفيق. وهذان اسما علم قل أن يكون فلسطينيا اسم علم مثلهما. كل منير عرفته كان ابن حارة نصف دمه كريات دم حمراء والنصف الآخر زيت وزعتر. وكل شفيق عرفته كان فلسطينيا قحا تناديه زوجته المدنية "شفيئ".

كيف يمكن لفلسطيني أن لا يحب منير شفيق؟ هذا الرجل وهو الآن عجوز ثمانيني إلا أنه يظل شابا وسيما جميل المحيا. هذا الفارع الطول حسن المظهر جهوري الصوت هو جدنا الذي لم ندركه. أنا متأكد أن منير شفيق في عزه كان يمسح الصورة عن "الشلن". ومتأكد أنه لو رمى الجدار بحجر لأحدث فيه شقا كما حدثت الروايات عن أجداد فلسطينيين كثر. ومنير مدني، متعلم، مثقف، حسن الهندام أيضا، وحين تنكر في ثياب الفلاحين فارا من المخابرات فإن سمات طبقته الاجتماعية – إن تحدثنا بمفردات حقبته الشيوعية – فضحته وكشفته. ومع ذلك فهو لم يستعل يوما على الفلاحين أو على تراث شعبه، بل أخذ على الأحزاب الشيوعية العربية غربتها عن تراث عين الفلاحين والعمال الذين ناضلت باسمهم.

كيف تستطيع أن لا تحب منير شفيق؟ هو في شبابه خالك اللطيف الذي يعرف ألعابا لم يعرفها ولم يعتدها أبوك المحافظ (كان يلعب "البريدج" وهي من ألعاب الورق). هو أيضا عمك المثقف جدا، المتعلم جدا، الذي أتقن اللغات الأجنبية في الزمن الأول، وترجم أمهات الكتب الفكرية وكتب الحرب والتاريخ والاستراتيجية العسكرية، ودَرَسَهَا ودَرَّسَها للتنظيمات والكوادر، في كل حقبه الفكرية. لنعترف أن العثور على عم كهذا ليس سهلا. كل فلسطيني له في منير شفيق حصة. القرية والمدينة، والطبقة المثقفة والطبقة التي لا يشغلها أن تدَّعي أنها كذلك، والمسلمون والمسيحيون، واليسار واليمين، والعلمانيون والإسلاميون.

لا زلت أذكر مرة في العام 2010 كيف تحدث – ولا زال – عن ضرورة السعي لقيام انتفاضة شاملة في الضفة، وقدرتها على تحقيق نصر مرحلي يحرر الضفة، ويهدم الجدار، ويفتك القدس من براثن الاحتلال دون قيد أو شرط أو تنازل. يومها لم أملك إلا البكاء تأثرا. سيحاجج أهلي أنني سريع البكاء، لكن الرجل أطلق عندي ساعتها جرعة تفاؤل لما قدم من حسابات منطقية وعقلانية، في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية تمر بمنعطف من منعطفاتها الدقيقة التي لا تنقضي. منير شفيق يعي المحددات التي تحول دون انطلاق تلك الانتفاضة المرجوة، لكنه يوجه الفصائل والجمهور لمعالجة هذه المحددات بدل البكاء على الفردوس الضائع، والانطواء على عواطف حرى وحزينة، أو (بالنسبة للفصائل) بدل الجمود عند أساليب عمل قديمة وبالية.

هو دائم النظر لميزان القوى ودوره في ترجيح كفة طرف على آخر في أي معركة، ولا يعير العواطف في هذا الباب مثقال ذرة من اعتبار. عند شفيق فإن صلاح الدين الأيوبي كان سيمنى بهزيمة ساحقة، لو أنه قاد الأمة في حرب عام 67 بنفس ميزان القوى القائم في حينه. منير شفيق يكره الآراء والمواقف العاطفية العدمية الحادة، ولذلك سأقاوم الرغبة في أن أقول "يا خسارة منير شفيق" في بعض من لم يعرف قدره. أكاد أقول هذا الرجل هو "هرتزل" مع "بن غوريون" مجتمعين، لكن أتذكر أنه أفضل من ذلك بكثير جدا. شتان بين مفكر مناضل قدم بين يدي تفكيره وتنظيره جهادا ونضالا وصمودا في السجون وتحت التعذيب، وتحريا دؤوبا للحق والحقيقة، وبين قيادات أوروبية استعمارية فاشية، وجدت الدعم والتوجيه والتمويل من بريطانيا وعموم أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفييتي، لتمارس فاشيتها وعنصريتها وإجرامها في حق الشعب الفلسطيني.

منير شفيق هو جد المثقفين المشتبكين ولا ريب. هذا رجل بذل التضحيات من عمره وجسده، وجمع إلى ذلك الريادة الفكرية والتنظيرية. وأضاف لتميزه تميزا، بالتصاقه بجغرافية فلسطين ومعرفته الدقيقة بها، بفضل مرافقته والده المحامي لمختلف مدنها، أثناء عمله فيها قبل النكبة. بداية منير شفيق كمناضل كانت كقائد شيوعي محلي في القدس الشرقية في حقبة الحكم الأردني بعد النكبة وقبل النكسة، فهو يعرف المكان ويستيطع رغم بعد الملاجيء والمنافي والشتات تحسس مسيرة كل هبة وانتفاضة ومواجهة في القدس. صار عندي الآن قناعة أننا يجب أن نحرر القدس ليس فقط لأنها أولى القبلتين وثاني المسجدين، بل أيضا لأنها حاضنة القطمون، الذي احتضت منير في طفولته. سافر منير شفيق في رحلة تحولات فكرية عظيمة، وظل في مسيرة تحولاته يتعلم ويتحرى الحقيقة. إن ابراهيم كان أمة ومنير شفيق من أمة ابراهيم وحزبه بلا ريب. يمكنك بثقة عالية أن تصدق ما ورد في مذكرات منير شفيق، فهو لا يخفي أيا من المحطات التي تصرف فيها ببراغماتية وبواقعية سياسية بعيدة عن المثالية. لذلك يسهل عليك تصديقه حين يخبرك عن تحولاته النبيلة، والمراجعات النقدية الذاتية التي قادته لها، خصوصا حين تصدق الوقائع والأحداث سرديته.

سيرة منير شفيق تصف سطوع نجم وأفول تيارات فكرية سياسية عربية عديدة، وانتقالات الرجل بينها بعد استنفاده جهده في الإصلاح والتقويم من الداخل. فمن المهم لكل من يشتغل في السياسة في الأحزاب والحركات الفلسطينية والعربية قراءة مذكرات هذا الرجل. هناك نموذج واضح غير سار في الجمود والفشل والتحلل، تكرر في كثير من الأحزاب والجماعات العربية، وبصرف النظر عن الفكرة أو النظرية التي تعتنقها. كل جماعة تقدم أشراط هذا النموذج فإنها ستستحقه وتستحق عواقبه بصرف النظر عن المدرسة اليمينية أو اليسارية التي تتبناها. والحكمة تقتضي مراجعة هذا التاريخ والاتعاظ به.

كذلك يحتاج كل فرد عربي إلى قراءة هذه المذكرات. نحن في حقبة عربية مٌذَهِلة ومُعْجِزة في تغييبها للسياسة عن السياسة، وتصغير دورالتفكير العقلاني الواعي بالمعطيات في موازنة المصالح والمفاسد. إن التأييد العدمي أو الرفض العدمي لفريق ما، سواء بسبب موقف اتخذه أو بسبب خلفية فكرية أو مذهبية ما، هو حمق مطبق وترف لا نملك مقارفته. نحن الأضعف والأقل عددا وعدة، ولا يجب أن نسمح لخلاف ما – مهما عظم – في أن يوجه مواقفنا بطريقة تهدم الكليات الكبرى التي نجتمع عليها مع طرف عربي آخر. حتى لو كان ذلك الطرف العربي قد خالفنا أو آذانا، طالما أنه لا زال تحت مظلة تلك الكليات الكبرى. يجب أن يكون هذا التفكير من البديهيات، لكننا ندفع أثمانا باهظة من دمائنا ومواردنا وقضايانا لقفزنا عن هذه البديهيات. ويحتاج كل عربي يعتبر نفسه ناشطا أو صاحب رأي أن يقرأ مذكرات منير شفيق، ليتذكر بديهية أخرى عن ضرورة جمع قطران العمل في الميدان والتضحية والفداء مع التنظير من القواعد الآمنة المطمئنة خلف شاشات الحواسيب. بديهية أخرى دفنت تحت ركام "اللايكات" وطغام ورغام المتابعين الغثائيين. ناهيك طبعا عن حقيقة أن لدينا فائضا كبيرا جدا في المتحدثين، وفقرا مدقعا في المفكرين والمنظرين – في أي نظرية سياسية كانت!

ترك منير شفيق الحزب الشيوعي في وقت كان فيه من المجزي ماديا ومعنويا للمرء أن يكون زعيما في الحزب الشيوعي. واختط مسيرته الخاصة في حركة فتح، وفارق باكرا معسكر التسوية الذي تمخض عن أوسلو، وفارق كيسه وامتيازاته ومناصبه. واختتم الرجل مسيرة تحولاته بالانحياز الفكري للتيار الاسلامي المقاوم. هذه رحلة تحولات في اتجاه معاكس لحركة المال والمناصب والامتيازات الشارية للذمم. هذا العناد والطهر سبب جوهري لاحترام هذا الرجل. ولا شك أن الاسلاميين والمسلمين سعدوا بانضمام قامة فكرية وسياسية مثل منير شفيق لمعسكرهم، لكن حذار من التصور ولو للحظة أن هذا يتم على قاعدة التنكر للقيمة العظيمة للمركب المسيحي العربي في فلسطين، أو أن اعتناق شفيق للفكر الإسلامي هو إقرار للحركات الإسلامية على ترهلها وتكلسها وجمود مؤسساتها. إن كثيرا منها ينبئ الآن عن تصرفات وسلوكيات كانت ستدفع بمنير شفيق وبأمثاله لمغادرة هذه الأطر – وليس الفكرة الإسلامية في حد ذاتها – لو كانوا كوادر عاملة فيها. ذلك لأن السنن الكونية في نجاح وفشل الأحزاب والحركات لا تحابي أحدا.

لكن يبدو أنني أخطأت التقدير، فالسعادة والتفاؤل يملآن علي نفسي بعد قراءة مذكرات "زريف الطول"، أطال الله عمره وأطال انتفاعنا به. أشعر بحب مستجد بالغ للقطمون والقدس وفلسطين وطبعا لمنير شفيق، ومنهجه في التفكير والنضال، وأشعر أن لدينا نموذجا "إبراهيميا" حقا جديرا بالاتباع، "قانتا لله حنيفا" "، "وإنه في الآخرة لمن الصالحين"، إن شاء الله تعالى.

  • المواد المنشورة في موقع مركز القدس للدراسات تعبّر عن آراء كتابها وقد لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز.